تونس والزمن الجميل
في مشهدٍ حرصت رئاسة الجمهورية التونسية على الإعلام عنه في صفحتها على "فيسبوك"، وهي النافدة الوحيدة التي يطلّ الرئيس قيس سعيّد منها على شعبه إعلاميا، ونقلته التلفزة التونسية، وأعادت بثه خبرا أول في نشرة الأخبار الرئيسية التي يتابعها التونسيون الثامنة ليلا يوميا، بدت المديرة العامة للتلفزة الوطنية متكوّرة واجمة. تحدّق في الرئيس غير مستوعبة ما يجري، وهي بين الذعر والذهول، ظلت تتلقّى وابلا من التقريع من الرئيس عما يعتبره سوء أداء التلفزة العمومية: ترتيب الأنباء، المنوعات... إلخ.
في كل تلك التفاصيل، ظلّ الرئيس يؤنّب المديرة العامة، وهي المخضرمة التي سطع نجمها حين كانت شابة منذ أكثر من عشرين سنة في عهد الرئيس بن علي، وقد اشتغلت مذيعةً في قناة الشباب آنذاك التي أحدثها الرئيس "هديّة للشباب". وللمفارقة، ارتقت في عهد الرئيس سعيّد بتعيينها مديرة عامة للتلفزة الوطنية، وتلك من غرائب الثورة التي ظلّ فيها رموز "الإعلام النوفمبري" هم ذاتهم قادة الإعلام ورموزه في المرحلة الحالية.
لم يستطع الرئيس سعيّد أن يستسيغ إطلاق مفردة الزمن الجميل على أحد البرامج التلفزيونية التي رأى فيها تمجيدا لحقبةٍ كانت دون ذلك، بل نعتها بالزمن القبيح، مشيرا ضمنيا إلى تواريخ بعينها لأحداثٍ وقعت في عهد الرئيس بورقيبة، على غرار برنامج "قافلة تسير"، وهو منوّعة للأغاني الشعبية من التراث البدوي، تختم عادة بعكاظيات شعرية تمجّد بورقيبة. كما أتى على أحداث نقابية، على غرار ما عرف بالخميس الأسود (يناير/ كانون الثاني 1987) وأحداث الخبز الدامية (يناير 1984)... إلخ.
ما يهمنا تصوّرات سعيّد للزمن، وقدرته الفائقة على التمييز بين زمنين، جميل وآخر قبيح
لم يُشر الرئيس إلى أحداث وقعت في عهد بن علي، ولكنه أشار إلى تغييب التلفزة في برامجها أحداث الثورة ذاتها والاغتيالات بعدها. كان يشير، من حين إلى آخر، بإصبعه إلى ألبوم صور في مكتبه توثّق زيارات ميدانية جمعته مع فقراء ومحتاجين. كرّر مرّات اسم المنوّعة بشيء من السخرية والغضب. و"الزمن الجميل" برنامج انطلق قبل سنتين، يستضيف فنانين ومذيعين تعتقد معدّته أنهم صنعوا ربيع التلفزة والثقافة والإعلام عموما، وجلهم للمصادفات العجيبة نحتوا "مجدهم" مع نظام بن علي. لذلك ذكّر سعيّد المديرة العامة للتلفزة صراحة بأن بعضهم كان في أثناء الثورة متخفيا وآخرين عادوا أبطالا وهم في الأصل "لصوص".
ما يهمنا تحديدا يتجاوز تدخل الرئيس المباشر في الخط التحريري لمؤسّسة إعلامية، في انتهاك صارخ لكل ما تراكم من قوانين متعلقة بحرية الإعلام واستقلاليته، وهو الأمر الذي ندّدت به نقابة الصحافيين، واعتبرته محاولة لتوظيف التلفزة لدعاية سياسية للرئيس، فما يهمنا هو تصوّرات الرئيس سعيّد للزمن، وقدرته الفائقة على التمييز بين زمنين، جميل وآخر قبيح، علينا أن نقرّ بأن الأمر معقد ومركّب، فهو مزيج من التاريخ والفلسفة والانطباع الذاتي، فالزمن بناء ذهني ذاتي ومجتمعي أيضا.
كان الزمن اختراعا ملتبسا ومعقدا، تذهب أطروحات إلى أن عباقرة الحضارة البابلية أول من قسموا اليوم إلى أجزاء واعتبروا أن الزمن يجري، حتى يكون لنا حاضر وماض وقادم. كان الزمن نهرا عظيما نسبح فيه مرّة واحدة. كان شروق الشمس ومغيبها هما الزمن، أما الليل فهو زمن ميت، إنه فراغ آسن. ويبدو أن الاغريق والرومان قد استأنفوا هذه التقسيمات، لا شك إنها تقسيمات كمّية للزمن. أما الفلاسفة فقد كان لهم موقف آخر من الزمن، على اعتباره قوام الوجود والعدم.
أراد قيس سعيّد أن يقبّح زمن ما قبل الثورة، وقد نعته صراحة بالزمن القبيح
كما علينا ألا ننسى أن المؤرّخين هم الذين أولوا أهمية قصوى للزمن، وقسّموه إلى حقب وفترات وعصور، حتى استقرّ لدينا هذا التبسيط الذي نميّز بموجبه بين الماضي والحاضر والمستقبل. الأمر أكثر تعقيدا إذا ما أضفنا نسبية الزمن وذاتيته التي ظهرت مع الفيزياء المعاصرة، إذ نسقط عليه مشاعرنا الذاتية والجماعية، فإذا هو زمن غادر أحيانا وكئيب أحيانا أخرى وزمن جميل مقابل زمن قبيح... إلخ. وقد شكاه الشعراء والساسة ومجّدوه وهناك من اعتبروه آثما، في حين قدّسه آخرون. في كل غابة الزمن هذه، تعمد الشعوب إلى ابتكار زمنها الخاص، وتسمّيه عادة عهدا ذهبيا هو زمن جميل مقابل زمن آخر، قبيح وتعيس. لا يحظى الأمر بإجماع، ولكن آلة الإعلام والتنشئة الاجتماعية تشتغل على عدّ فترة ما ذهبية أنها زمن جميل، عادة هو زمن مضى.
مباشرة بعد الثورة، اشتغلت في تونس "مصانع ومعامل" على اختراع زمنٍ جميل تُشدّ إليه الرّحال. عمل أنصار نظام بن علي ومعادو الثورة، حتى قبل صعوبات الانتقال، على تأجيج مشاعر النوستالجيا إلى ماضي ما قبل الثورة، فعادوا إلى زمن بورقيبة، وزمن بن علي تحديدا، من أجل أسطرته وجعله حقبة ذهبية أشادوا بها. لم يفكّك الرئيس قيس سعيّد هذه السردية، بل أراد أن يقبّح هذا الزمن (ما قبل الثورة)، وقد نعته صراحة بالزمن القبيح، لكنه ضمنيا كان يعتقد أن زمن الحاضر الذي يقابله هو الزمن الجميل الذي على التلفزة أن تحتفي به.
هكذا يستحوذ الرئيس على الزمن برمّته، ويمحو ما قبله تماما من أجل تأبيد حاضره، حتى يبدو الزمن الأوحد السعيد. ماضي ما قبل الثورة قبيح، وعشرية ما بعد الثورة هي عشرية الخراب، أما الحاضر فهو الزمن السعيد.