تونس: عَوْد على بدء
جاء إعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد عن تشكيل هيئة استشارية من أجل الإعداد سريعا لدستور جديد للبلاد يجري الاستفتاء عليه في غضون شهر يوليو/ تموز المقبل، لاعتماده بديلا عن دستور 2014 الذي أصبح في حكم المعطّل منذ إجراءات 25 يوليو (2021).
هكذا تعود تونس إلى مربع البحث عن الاستقرار الدستوري. ولأن تجاربها السابقة مع الدساتير لم تكن موفقة بأشكال شتى. ففي سنة 1861 صدر دستور تونس الأول، وكان امتدادا لعهد الأمان الصادر سنة 1857. وفي كتابه "الإتحاف"، يذكر المؤرّخ والمصلح التونسي ابن أبي الضياف، الذي عاصر تلك المرحلة، أن محمد الصادق باي لم يكن متحمّسا لتقييد حكمه بدستور، ما يجعله خاضعا للقانون، ويحدّ من صلاحياته المطلقة. وهكذا ظلّ يتربص بالدستور الجديد الدوائر، حتى اندلعت انتفاضة علي بن غذاهم سنة 1864، فاستغلّ الفرصة ليعتبر الدستور لاغيا، وأن الخطر الداهم الذي تمثله الانتفاضة الشعبية يمنحه الحق في العودة إلى نمط حكمه المطلق، ففي الأول من مايو/ أيار سنة 1864 "كاتب الباي رئيس المجلس الأكبر (ما يوازي البرلمان) بما معناه: إن المصلحة اقتضت توقيف المجلس الأكبر". وكتب مثل ذلك إلى رئيس مجلس الجنايات والأحكام العرفية (المجلس الأعلى للقضاء) "إن المصلحة اقتضت أن المجلس لا يباشر فصل النوازل، فالعمل أن تنبه على سائر الأعضاء بذلك، والسلام". وكتب مثله إلى رئيس مجلس التحقيق (النيابة العمومية) و"صار الباي يباشر النوازل في المحكمة على العادة السابقة .. وسبحان من انفرد بالمشيئة المطلقة وهو الحكيم الخبير". ويضيف ابن أبي الضياف، متحدّثا عن مؤيدي قرار الباي، "وصار بعض المتزلّفين من أوغاد الجهلة والأراذل إذا وقف بين يديه (أي الباي) موقف طمع أو موقف شكاية بدعوى مجردة يحمد الله على هذا اليوم الذي رأيناك فيه على كرسيّك كأنه كان ممنوعا أو مخلوعا". وهكذا انتهت تجربة الدستور الأولى في تونس بعودة ما يسميه ابن أبي الضياف حكم الإطلاق، والذي أدّى، في النهاية، إلى سقوط البلاد تحت براثن الاحتلال.
بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987، أجرى زين العابدين بن علي تعديلا على بعض فصول الدستور، وتحديدا آلية خلافة رئيس الجمهورية
ظل الحلم بدستور يضمن الحقوق لهذا الشعب قائما، ووجد التعبير الأول عنه بتأسيس الحزب الدستوري الحر سنة 1920 بزعامة الشيخ عبد العزيز الثعالبي، وكان تضمين لفظ الدستور في اسم الحزب تأكيدا لرغبة الزعماء الأوائل في التأسيس لحكم تعدّدي يحترم الحقوق في ظل دستور شعبي.
بعد الاستقلال، جرت التهيئة لبناء نظام جمهوري جديد، توّجَهُ صدور دستور سنة 1959، والذي كان أقلّ اهتماما بقضايا التعدّدية وتوزيع السلطات، وانفرد رئيس الجمهورية بكل الصلاحيات الممكنة في اتخاذ القرارات وتنفيذها، وكان المبرّر أن الدولة في مرحلة بناء، ولا تحتمل التعدّد وصراع الأحزاب، فضلا عن التداول على السلطة.
بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987، أجرى زين العابدين بن علي تعديلا على بعض فصول الدستور، وتحديدا آلية خلافة رئيس الجمهورية، مبقيا لنفسه على الصلاحيات نفسها التي كان يتمتع بها سلفه الحبيب بورقيبة. وهو ما كان دافعا للنخبة السياسية التي تولت صياغة الدستور بعد ثورة 14 جانفي 2011 أن تحاول تفتيت السلطات وتوزيع الصلاحيات، بما يمنع طرفا محدّدا من الانفراد بكل السلطة بشكل مطلق.
الدستور هو البناء الهندسي للنظام السياسي برمته، أو هو العقد السياسي الذي يعبر عن التوافق العام، ويحدّد فلسفة الحريات العامة والحقوق
مع إعلان الرئيس الحالي عن إجراءات تعطيل البرلمان في 25 يوليو/ تموز 2021، وتعطيل دستور 2014، عاد السؤال عن طبيعة الحكم المقبل للبلاد. ومع الإعلان عن إعداد مسوّدة دستور جديد، بدا المشهد السياسي التونسي كأنما هو بصدد استعادة الماضي، حيث يعود التساؤل والقلق المشروع بشأن التصميم المؤسسي الجديد الذي يعتزم رئيس الجمهورية اعتماده، فالدستور هو البناء الهندسي للنظام السياسي برمته، أو هو العقد السياسي الذي يعبر عن التوافق العام، ويحدّد فلسفة الحريات العامة والحقوق، وهو القانون الأعلى للدولة، فهل تعقل صياغته بمعزل عن استشارة القوى السياسية والمنظمات الاجتماعية والجمعيات المدنية والهيئات الحقوقية؟
لا يمكن إنكار وجود هنات في دستور 2014، ظهرت في أثناء الممارسة، ولكن لا يمكن أبدا التشكيك في حرصه على حفظ منظومة الحقوق والحريات وإفساح المجال للمجتمع المدني والحرص على حماية المواطن. وفي انتظار مسوّدة الدستور الجديد، يظل الوضع السياسي التونسي في حالة من الارتباك، ترافقه أزمات اقتصادية واجتماعية كان ينبغي أن تتمتع بأولوية المعالجة والبحث عن حلول. ولكن يبدو أن الأمور تسير نحو إقرار بنية سياسية جديدة، من الصعب توقع مُخرجاتها، ولا ما يمكن أن تفضي إليه في ظل استمرار غموض المشهد العام في البلاد.