تونس بين تحديات السياسة والاقتصاد

18 مارس 2022

متظاهر تونسي يرفع خبزا بمواجهة عناصر الأمن في العاصمة (26/1/2021/Getty)

+ الخط -

ربما لم تعرف تونس خلال مرحلة ما بعد الاستقلال وضعا شبيها بالحالة التي تعيشها في هذه الفترة. وهو وضع يمكن أن يوصف بالحالة الاستثنائية في ظلّ تجميد البرلمان وإيقاف العمل بالدستور وعدم وضوح السياسات العامة التي تسير وفقها البلاد، فمنذ الإعلان عن إجراءات 25 يوليو/ تموز 2021 دخلت البلاد منعرَجاً سياسياً يتسم من ناحية بالجمود، ومن ناحية أخرى بالضبابية. وفيما يستمر رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، في إصدار المراسيم التي يدير من خلالها الشأن العام، بقيت الطبقة السياسية في حالةٍ من الارتباك في ظلّ انقسامها، حيث التزم بعضها الصمت والترقب، فيما يتحرّك قسم آخر لمناهضة التوجهات الجديدة، سواء عبر التحرّكات الاحتجاجية في الشوارع أو الندوات واللقاءات التشاورية لبحث سبل التعامل مع حكم الأمر الواقع السائد في البلاد.

المأزق السياسي الحاد يتجلّى بالوضع الاقتصادي الذي يراكم أزماته منذ سنوات وازداد الوضع حدّة في الأشهر الأخيرة

تبدو حالة القطيعة التامة بين السلطة التي تمثلها الرئاسة والحكومة التابعة لها والطبقة السياسية بكل أطيافها، حتى المؤيدة لإجراءات الرئيس، ميسما عاما يميّز المرحلة الحالية، وفيما تمضي الرئاسة في التأكيد على استكمال الاستشارة الإلكترونية التي ستكون منطلقا لكتابة دستور جديد وإعادة بناء النظام السياسي، حيث سيتضمن التصميم المؤسسي عدداً من الموضوعات، منها إصدار التشريعات المنظّمة للحياة السياسية، مثل قوانين النظام الانتخابي والأحزاب والمجتمع المدني ومباشرة الحقوق السياسية، تشكّك الأحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني في جدوى هذه الاستشارة ومدى تمثيليتها، بالنظر إلى محدودية المشاركة فيها، على الرغم من تجنيد هياكل الدولة لإنجاحها، وتعتبر أنّ المسّ ببنية الحقوق والحريات التي جرى تشريعها في دستور 2014، سيكون ردّةً على مكتسبات الثورة ورجوعاً إلى زمن حكم الفرد الواحد. وفي غياب الحوار والمشاركة السياسية، يظلّ التجاذب بين الطرفين قائما. وبينما تراهن الأحزاب والمنظمات المدنية على جوهرية وجود نخبةٍ سياسيةٍ لنجاح أيّ مسار ديمقراطي تتلخص رؤية الرئيس في ما يعتبره رهاناً على الجمهور الذي لا علاقة له بالعمل الحزبي أو العمل السياسي المنظّم، رهانات متناقضة تفضي إلى تكريس مزيدٍ من القطيعة، وأدّت إلى حالة من الجمود السياسي، حيث لا يمكن توّقع ملامح المرحلة المقبلة.

وفي مقابل هذا المأزق السياسي الحادّ، يتجلّى الوضع الاقتصادي الذي يراكم أزماته منذ سنوات، وازداد الوضع حدّة في الأشهر الأخيرة، ومع استعداد الحكومة الحالية الدخول في جولةٍ جديدةٍ من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، تزداد الظروف المعيشية للمواطن تدهوراً في ظلّ فقدان مواد أساسية كثيرة من الأسواق، وتراجع نسبة النمو والاستثمار وارتفاع التضخم، وهي قضايا ملحّة تستوجب حلولاً عاجلة.

المرحلة الحالية في تونس تحتاج إصلاحات اقتصادية واسعة، غير أنّ هذا كلّه لا يمكن تحقيقه من دون استقرار سياسي

تحدّي الأزمة الاقتصادية هو الميدان الفعلي الذي يُظهر نجاح أي سلطةٍ في إيجاد حلول للمشكلات الحقيقية لشعبها، وتظلّ مشكلات البطالة والتضخم وتراجع النمو وانخفاض القدرة الشرائية لدى المواطن هي الإشكال الرئيسي والحاسم في تحديد مصير المرحلة الحالية، ومدى نجاحها في تحقيق وعودها وتجسيم شعاراتها، فالقضايا المالية والاقتصادية التي تعانيها تونس حالياً تتعلق بالمالية العمومية أساساً، فعلى الرغم من الزيادة في ميزانية الدولة، فإنّنا لا نسجل زيادة في النمو ولا في الاستثمار. وفي ظل الأزمة العالمية الحالية التي أثرت على أسعار الحبوب والنفط، من الأكيد أنّ هذا سيزيد في الضغط على الميزانية، فعلى سبيل المثال، الدولة مطالبة بتوفير 18 ألف مليون دينار لتغطية عجز الميزانية من دون احتساب زيادة جديدة بقيمة سبعة آلاف مليون دينار، نظرا إلى ارتفاع أسعار المحروقات والحبوب، وحيث كل زيادة بدولار في برميل النفط تنجرّ عنها زيادة تقريبا بمائة مليون دينار في ميزانية الدولة، هذه الأزمة التي تدفع الحكومة إلى البحث عن قروض لتمويل الميزانية، طرحت مشكلاً عميقاً في التعامل مع صندوق النقد الدولي الذي وضع شروطا قاسية لتلبية المطلب التونسي. وحسب تأكيد الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل، صلاح الدين السالمي (رويترز 17 مارس/ آذار 2022)، فإنّ حزمة الإصلاحات التي أعدّتها حكومة نجلاء بودن تتضمن تجميد الأجور خمس سنوات وتجميد التوظيف في القطاع العام، ورفع الدعم نهائيا عن المواد الأساسية والمحروقات خلال أربع سنوات، وبيع بعض المؤسسات العامة. وبالتأكيد، لن تلقى هذه الخطة الاقتصادية قبولاً من المنظمة العمّالية الأقوى في البلاد.

الملف الاقتصادي جاثم على البلاد، الأكيد أنّ المرحلة تحتاج إصلاحات اقتصادية واسعة، غير أنّ هذا كلّه لا يمكن تحقيقه من دون استقرار سياسي، فالتقاطع بين الاقتصاد والسياسة أمر لا يحتاج إثباتا. ولهذا، كل توجّه نحو إجراءات اقتصادية مؤلمة قد تثير الشارع الاجتماعي، يقتضي تسوية الملف السياسي والدخول في حوار وطني، أصبح ضرورياً وعاجلاً لحلّ المشكلات العالقة وما أكثرها.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.