تونس... المشرّع شريكٌ في العبث

30 سبتمبر 2024

تونسيون في مظاهرة نظمتها الشبكة التونسية للحقوق والحريات قرب مجلس النواب (Getty 27/9/2024)

+ الخط -

بدأت الحكاية وكأنّها نكتة أو دعابة، وفي أقصى الحالات سيناريو كاميرا خفيّة. لكن الأحداث تتالت وتحوّلت في أيام قليلة مبادرةً تشريعيةً، بل قانوناً ينظّم العملية الانتخابية، وما تبقّى من مسارها. فقد صدّق البرلمان التونسي يوم الجمعة الماضي على قانون أساس للانتخابات، يُلغي ما سبقه تقريباً إلغاءً تامّاً. لا يُعدّل القانون نقيصةً بارزةً، وهو الذي صاغته الهيئة العليا المستقلّة لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، التي قادها أستاذ القانون الدستوري، عيّاض بن عاشور، فكانت بمثابة برلمان الثورة خلال سنتي 2011 و2012، فعبّرت عن روح الثورة وتطلّعات الناس إلى قوانين ديمقراطية تنظّم الانتخابات تحديداً. انعقدت الجلسة العامة للبرلمان للنظر في المبادرة التشريعية التي أعلنها أصحابها قبل أيام قليلة، إذ وقّعها ما يناهز 37 نائباً، من أجل إبعاد ولاية المحكمة الإدارية نهائياً عن كامل المسار الانتخابي. يحدث هذا كلّه قبل أسبوع تقريباً من يوم الاقتراع في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2024 (المُحدَّد منذ ما يزيد على ستّة أشهر).
تحرّك النواب الذين صعدوا البرلمان في انتخابات قاطعتها تقريباً الطبقة السياسية، وقد جرت بُعيد الانقلاب، ولم يُقبل عليها سوى ما يناهز 22%. شعر هؤلاء النواب بالخطر أخيراً، فعبّروا ضمنياً عن مخاوف السلطة التنفيذية قبل مخاوفهم الشخصية، فالانتخابات التي دارت حولها النزاعات هي الرئاسية تحديداً، ولكن السلطة التشريعية تهبّ لإنقاذ السلطة التنفيذية والذود عنها، حتّى لو على حساب الأعراف والآداب السياسية المُتعارَف عليها. يثبت هؤلاء النواب، بفعلهم المشين هذا، إلغاء أشكال استقلال السلطات بعضها عن بعض (التنفيذية والتشريعية). فلمّا وضع النظام السياسيي يده على البرلمان أصبح منذ أكثر من سنتين مُجرَّد جهازٍ تابعٍ له، سارع هؤلاء النواب إلى صياغة هذه المبادرة القانونية تعبيراً منهم عن دفاعهم المستميت عن النظام، وهم الذين يدينون له بهذه الوجاهة كلّها. المشروع الذي جرت الموافقة عليه، وبشكل نهائي، صدر على غير العادة في الجريدة الرسمية (الرائد الرسمي) للبلاد التونسية، يزيح نهائياً المحكمة الإدارية عن أيّ شكل للمراقبة القضائية للمسار الانتخابي.

المُؤشّرات تجعلنا نتوقّع أنّ العهدة القادمة لسعيّد لن تكون عهدةَ القبول به، وهو الذي فقد جزءاً كبيراً من مشروعيته القانونية والأخلاقية

حاول الشباب المُحتجّ الضغط على مجلس النواب، وثنيه عن غيّه وعبثه، غير أنّ الأسلاك الشائكة والحواجز الحديدية، التي طوّق بها رجال الأمن بناية مجلس النواب، حالت دون الاقتراب منه. ومع ذلك، ظلّت صيحاتهم تُصرّ على أن تُصحّي ضمائر هؤلاء، الذين اجتمعوا عن بكرة أبيهم من أجل التشريع لانقلاب ثانٍ على إرادة الناخبين. تواصلت أشغال الجلسة العامة منذ الصباح وإلى وقت متأخّر من الليل، حتّى صدر القانون الذي يُعَدُّ مهزلةً حقيقيةً. يلغي القانون أيَّ دور للمحكمة الإدارية، وينقل بشكل نهائي النزاعات الانتخابية كلّها من القضاء الإداري إلى القضاء العدلي. على هذا النحو، لا يمكن تماماً الطعن في النتائج الانتخابية أمام المحكمة الإدارية، خصوصاً وقد تمكّن الذعر من النظام أخيراً خشية أن تلغي المحكمة الإدارية نتائجَ الانتخابات، حتّى بُعيد إعلانها حين يطعن فيها المترشّحون، الذين أزاحتهم الهيئة العليا للانتخابات، وأنصفتهم المحكمة الإدارية.
بهذا القانون، يثبت النواب أنّ المشرّع غير منزّه عن العبث حين تجاوزوا الأعراف أو التقاليد السياسية كلّها، التي احترمتها حتّى أعتى الدكتاتوريات. إذ يعمد هؤلاء إلى تغيير قوانين اللعبة الانتخابية تغييراً مُبكّراً. لقد فعل ذلك الرئيس زين العابدين بن علي سابقاً، حين عمد إلى تغيير الدستور مرّات، حتّى يزيح منافسيه، ولكن ذلك كان يحدُث قبل أن ينطلق السباق الانتخابي بأشهر، أمّا أن يعمد الحاكم إلى تعديل القانون قبل أسبوع من يوم الاقتراع، فسابقة لا ينافس تونس فيها أحد، وهي أيضاً خطأ جسيم يضاف إلى تلك الأخطاء كلّها، التي ارتكبها النظام مند أن ألغى الدستور، وقد سبق أن أقسم على احترامه.
لا يمكن لأحد أن يبصر بوضوح الطريق الذي ستسلكه البلاد بعد إعلان فوز الرئيس قيس سعيّد في الانتخابات بعد أقل من أسبوع، ولكنّ الأرجح أنّها لن تهدأ. هذا العبث كلّه، الذي جرى خصوصاً خلال آخر أسابيع في تزامن مع انطلاق السباق الانتخابي (إيقافات المُترشّحين، ومنعهم قانونياً، وتعديل القانون الانتخابي في الأمتار الأخيرة من هذا السباق) كان سبباً كافياً لانطلاق موجات عديدة من الاحتجاجات التي تنبئ أنّ الرئيس سعيّد سيستقبله هؤلاء بكثير من موجات التمرّد. نحن أمام موجات شبابية ووجوه جديدة غير مألوفة، فضلاً عن أشكالٍ احتفالية في الاحتجاج (قرع طبول، هتافات جديدة، إلخ)، يضاف إلى ذلك الوقفات الاحتجاجية التي نفّذها الاتحاد العام التونسي للشغل، التي تشي بأنّ الاتحاد قد يدخل في صدام مع السلطة، وهو الذي أعلن مبدأ الاضراب العام الذي لم يُحدِّد بعد تاريخه، ولعلّه بذلك يجسّ نبض النظام، وهو يعلم علم اليقين أنّ الدور قادم عليه لا محالة.
تجعلنا هذه المُؤشّرات كلّها نتوقّع أنّ العهدة القادمة لسعيّد (وقد أزاح تقريباً خصومه الأقوياء كلّهم) لن تكون عهدةَ القبول به، وهو الذي فقد، بكل هذه العنجهية والعبث، جزءاً كبيراً من مشروعيته القانونية والأخلاقية.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.