تناقضات ملف سجناء الرأي في مصر
نال عدد من معتقلي الرأي في مصر حريتهم في اليومين الماضيين بعد إفراج السلطات المصرية عن 41 من المحبوسين احتياطياً، بعضهم على ذمة قضايا سياسية، من أًبرزهم الصحافي محمد صلاح، والناشطان السياسيان، الحقوقيان وليد شوق وهيثم البنا، والباحث عبده فايد. لكن غيرهم كثيرون ما زالوا محتجزين مدداً طويلة احتياطياً على ذمة قضايا أو من الذين صدرت بالفعل عليهم أحكام. وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد أشار، في لقائه الإعلاميين، قبل أيام، إلى حاجة البلاد "لحوار سياسي شامل". وقال رئيس حزب الإصلاح والتنمية وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، محمد أنور السادات، إن "الفترة القادمة في مصر ستشهد مراجعات قانونية وإنسانية للإفراج عن المحبوسين احتياطياً أو المحكوم عليهم ممن ينطبق عليهم شروط العفو". تجد السلطات المصرية نفسها، من حين إلى آخر، في ظرفية تستدعي تقديم بعض التنازلات التكتيكية المحدودة في ملف حقوق الإنسان. وفي الوقت الراهن، تستدعي الظروف الاجتماعية والاقتصادية الخانقة في البلاد بعضاً من هذه التصريحات والإجراءات، لكنّ ثمة شكوكاً في جدواها باقية، بالنظر إلى المؤشّرات المقلقة للحالة الحقوقية اليومية في مصر، التي لا تنمّ عن أي نياتٍ جادّة لانفتاح سياسي أو لتخفيف القبضة الأمنية عن المجتمع.
يصعب إحصائياً تقديم حصر شامل لعدد معتقلي (وسجناء) الرأي في مصر، لكنّ الحديث هنا في ضوء المعلومات والتقارير المتاحة عن مصادرة حرية عشرات ألوف من المصريين ممن صدرت ضدهم أحكام تشوب إجراءاتها شبهات التسييس وعدم العدالة، أو كثر غيرهم من المحتجزين على ذمّة التحقيق في قضايا ذات طبيعة سياسية تتعلق بالنشاط السياسي أو التعبير عن الرأي. يربك النظام المعتقلين والسجناء وأسرهم ومحاميهم بتعدّد القضايا المثارة ضدهم، فيلجأ إلى ما بدأ يعرف في مصر بـ"تدوير المعتقلين"، في إشارة إلى تعمّد السلطات المصرية ضمّ المحتجزين لقضايا جديدة من حين إلى آخر، لإطالة أمد الاحتجاز، تحايلاً على القيود الإجرائية والقضائية. وفي هذا السياق، تحوّل إجراء الحبس الاحتياطي إلى عقوبة في حد ذاتها. فمثلاً، الناشط وليد شوقي، الذي أُفرج عنه مساء الثلاثاء، قضى في الحبس أكثر من ثلاث سنوات ونصف سنة على ذمة قضايا متعدّدة. وأخيراً، تلجأ السلطات، بشكل منهجي، إلى تضمين معتقلي الرأي في قضايا ذات علاقة بالإرهاب من دون أسانيد لإثارة مثل هذه الاتهامات. فعلى سبيل المثال، يقبع أستاذ العلوم السياسية في جامعة الإسكندرية، أحمد التهامي، في الحبس الاحتياطي منذ يونيو/ حزيران 2020، متهماً بنشر أخبار كاذبة والانتماء إلى جماعة إرهابية. ولم تحظ قضيته بالاهتمامين، الدولي والمحلي، المطلوبين، في ظل امتلاء السجون بالسياسيين وأصحاب الرأي واكتظاظها. وبالنظر إلى خريطة المفرج عنهم من حين إلى آخر خلال السنوات الثلاث الأخيرة، يمكن الوصول إلى استنتاجات أولية تساعد على تفسير مسارات تعامل النظام المصري مع ملف المعتقلين وتناقضاته.
الاستنتاج الأول، أن استجابة السلطات كانت أسرع في حالات المصريين مزدوجي الجنسية، شرط ممارسة الدول التي يتمتع المعتقلون بجنسياتها ضغوطاً مباشرة على النظام، وهو الأمر الذي حدث في قضايا الصحافي محمد فهمي، والناشطين محمد سلطان وإبراهيم حلاوة وآية حجازي ومحمد عماشة، وأخيراً رامي شعث. وقد يستفيد الناشط علاء عبد الفتاح من هذا المخرج، إذا ما تدخلت المملكة المتحدة، التي حصل على جنسيتها أخيراً، بجدّية في قضيته. وكانت الحكومة قد قنّنت هذا المخرج، عندما أصدر السيسي قراراً بقانون في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 يجيز تسليم الأجانب الذين على ذمّة قضايا لدولهم.
الضغوط الدولية المباشرة، من مستويات سياسية رفيعة المستوى في البلدان الغربية، حقّقت نتائج حاسمة لبعض المعتقلين
الاستنتاج الثاني أن الضغوط الدولية المباشرة، من مستويات سياسية رفيعة المستوى في البلدان الغربية، حقّقت نتائج حاسمة لبعض المعتقلين، وخصوصاً إذا كان هناك تهديد مباشر لمصالح اقتصادية وعسكرية ثنائية، أو إن أتت هذه الضغوط من دول يحرص النظام المصري على وجود علاقات دبلوماسية طيبة معها. لكن مثل هذه الضغوط المباشرة رفيعة المستوى تحدُث قليلاً، ويصعب تكرارها، خصوصاً مع تزايد أعداد المعتقلين في مصر بمستويات كبيرة ومتجدّدة.
الاستنتاج الثالث، أن النظام يتّجه، من وقت إلى آخر، إلى تسوية ملفات المعتقلين المنتمين إلى الإعلام والمجتمع المدني، وحركة حقوق الإنسان، خصوصاً في مرحلة الحبس الاحتياطي، وقبل إصدار أحكام قضائية ضدهم. تحظى هذه الفئات، عموماً، بأولوية في الاهتمام الدولي، نظراً إلى وجود منابر وآليات في العلاقات الدولية والمنظمات الدولية الحكومية، تهتم بالعمل على حمايتهم. وأحياناً تكون هناك جهود دولية منظّمة، تهدف إلى الإفراج عن قوائم محدّدة لهؤلاء المعتقلين وتحقق نتائج، لكن الضغوط الدولية والوساطات الداخلية تتضافر، أحياناً كثيرة، بشكلٍ تراكمي، فتدفع النظام، في أوقاتٍ تبدو حرجة له، لأسبابٍ خارجية أو داخلية، للإفراج عن مجموعات من هؤلاء المعتقلين، لامتصاص هذه الضغوط، أو تجميل صورته دولياً أو التخفيف من الاحتقان الاجتماعي داخلياً. وقد حقّقت بالفعل منظمات حقوق الإنسان المصرية والدولية، التي لجأت إلى تشكيل تحالفٍ حقوقيٍّ قوي عابر للحدود، نجاحات في السنوات الخمس الأخيرة في توظيف هذه المنابر، على الرغم من الظروف الدولية والإقليمية الصعبة التي تهمّش من قضايا حقوق الإنسان في العلاقات الدولية، خصوصاً مع دولةٍ لها ثقلها السياسي وأهميتها الأمنية مثل مصر. وقد ساهم الدفع بملف حقوق الإنسان على المستوى الدولي في السنوات الأخيرة في تشجيع الأطراف المحلية المعتدلة وتحفيزها على محاولة لعب أدوار وساطة وإقناع السلطات بتسوية بعضٍ من هذه القضايا.
الاستنتاج الرابع أن مساحة تسامح السلطات الحاكمة مع قضايا المعتقلين من ذوي الاتجاهات السياسية أقلّ كثيراً، خصوصاً بالنسبة إلى شخصياتٍ وتياراتٍ يمثل نشاطها مجالاً محتملاً لإيجاد بدائل سياسية، خصوصاً وسط الشباب.
استمرار السياسات السلطوية للنظام المصري، ورفضه إحداث انفتاح في الحريات، سيؤدّيان إلى استمرار الاعتقال التعسفي
يتعلق الاستنتاج الخامس والأخير بالتشدّد تجاه معتقلي جماعة الإخوان المسلمين ومن في دائرتهم، ولا يبدو أن هناك أفقاً قريباً للتخفيف عن أوضاع هؤلاء في ظل الدعاية السياسية المباشرة التي يبثها النظام يومياً ضد "الإخوان" والمحيطين بهم مباشرةً، والتي تلعب فيها الدراما الرمضانية حالياً دوراً بارزاً. ويبدو أن السلطة الحاكمة لا تملك سوى الاحتماء بسردية إنقاذ مصر من مؤامرات الإخوان المسلمين، خصوصاً في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمصريين في الوقت الحالي. في هذا السياق، رفضت السلطات المصرية التجاوب مع إعلان معتقلين سياسيين من جماعة الإخوان المسلمين ومن خارجها، عبر أسرهم أو في رسائل مسرّبة من السجون، عن مبادراتٍ ذات هدف إنساني تدعو السلطات المصرية إلى الإفراج عن هؤلاء المعتقلين والسجناء، خصوصاً الذين لديهم ظروف صحية حرجة، مع التعهد بالتوقف عن النشاط السياسي. وبحسب شهادة عبد الله حداد، نجل القيادي الإخواني المحبوس عصام حداد، المنشورة في موقع مدى مصر في 24/ 11/ 2021، فهذه المبادرة التي كانت في تقديره يمكن أن تكون "بذرة إصلاح وتضميد جراح مجتمعية"، كان يمكن أن يتسع نطاقها إذا سمح بالتواصل بين المعتقلين داخل السجون المصرية.
استمرار السياسات السلطوية للنظام المصري، ورفضه إحداث انفتاح نوعي في الحريات السياسية والمدنية، سيؤدّيان بالضرورة إلى استمرار الاعتقال التعسفي، نظراً إلى السياسات الوقائية التي تلجأ إليها السلطات في مصر دوماً خوفاً من احتمال أي حراكٍ اجتماعي أو سياسي، أو الاستغلال السياسي للغضب الشعبي من أطراف مناوئة داخل مؤسسات الدولة. وعليه، تكون النتيجة الحتمية الإعلاء من الإجراءات الأمنية التي تبدو، في بعض المواقف، عبثية وغير مفهومة، كما جرى أخيراً في مقتل الناشط السياسي والباحث الاقتصادي، أيمن هدهود، الذي تشبه ظروف اختفائه ومقتله قضية مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني.
في ظل استمرار جمهورية الخوف، سيحلّ معتقلون جدد محلّ المعتقلين والسجناء الذين بُذلت كل المساعي الدولية والوساطات الداخلية للإفراج عنهم، وستتواصل هذه الدائرة المفرغة إلى أن تحدُث تطورات داخلية أو دولية جديدة تدفع النظام إلى تغيير النهج السياسي الداخلي، ليس بالضرورة في اتجاه الانفتاح الديمقراطي، لكن القبول بمساحة محدودة من الاختلاف السياسي، وضمان الأمان الشخصي والحق في الحياة للمختلفين.