تلك الشعبوية الدينية في مهرجان كأس العالم
من الطبيعي في كل تجمّع بشري كبير، ولا سيّما إذا حفّت به مشاعر ورغبات ومنافسات، أن تظهر على الأفراد وفي سلوك الجماعات مظاهر تكشف عن معتقدات الناس وتصوّراتهم الدينية، قصدوا إلى إظهارها أم ظهرت عليهم عفويًا، يستوي في ذلك المتدينون وغير المتدينين، مسلمين كانوا أم من أتباع أديان أخرى. وقد يقصد بعضهم إظهارها تعبيرًا عن اعتزاز باعتقاده أو تعبيرًا عن هويته وتميزه، أو تقربًا إلى محيطه، ومن الطبيعي أيضًا أن ترافق أي مهرجان يستقطب مئات آلاف من البشر أنشطة تجذب اهتمام الجماهير، ثقافية كانت أو فنية أو دينية أو غيرها، بل إن من مقاصد الناس في السفر وقطع المسافات أن يتعرّفوا إلى الثقافات، وأن يجرّبوا الأطعمة والعادات، وأن يكتشفوا كل ما هو جديد، كما أن المهرجانات الكبرى مناسباتٌ تبرز الجماعات المحلية أو الوافدة من خلالها اعتزازها بقيمها وانتماءاتها، وتعاطفها مع قضايا إنسانية نسيها العالم أو تغافل عنها، وقد تحتج فيها على ممارسات تضرّ بالإنسان والطبيعة وتهدّد المستقبل.
ذلك كله أمر معهود ولا جديد فيه، حصل في كل المواسم الرياضية وغير الرياضية، لكن بعض وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي سلطت الضوء هذه المرّة على جانب من تلك الأنشطة التي رافقت مهرجان كأس العالم، وكأنها شيء جديد فيه، وبالغت في تصويرها، بل زوَّر بعضها أرقامًا ومشاهد ومواقف لم تحصل أساسًا أو كانت في مناسبات أخرى. وجرى استغلال هذه المشاهد المزوّرة والمدّعاة لتوظيفها في سياق دعاية مضادّة، وأن كأس العالم تحوّلت إلى موسم ديني دعوي، وأن الدولة المنظمة استغلته ابتداء لهذا الغرض، مع ملاحظة أن إتاحة الأنشطة الدعوية فيه من المنظمين أمر طبيعي، كما أتيحت أنشطة أخرى ودُعِمت. وجرى ترويج هذه الدعاية من جهتين: وسائل إعلام تترصّد ابتداء ما تتصيّد به البلد المنظم لتعزيز دعاية سابقة عن صلة داعمة بين البلد المضيف قطر والجماعات الإسلامية. ومتديّنون شعبويون يحرصون على أسلمة كل شيء وتوجيهه على أنه نصر إلهي ونجاح إسلامي ينبغي الفخر به، حتى لو كان، في طبيعته، لا صلة له بالشأن الديني، أو كان المدَّعى أمرًا موهومًا بولغ به، بل لو كان الأمر في سياق آخر لحذّروا منه، وقدّموا الخطب الصادحة في التحذير من مفاسده، لكن وجود فرق عربية مشاركة حققت نسبًا متقدّمة من الفوز جعلها عنوانًا لديهم لفوز إسلامي على فرق أخرى لبلدان غير إسلامية. والغريب أن بلدانا إسلامية كانت مشاركة أيضًا لم تحظ بالدعم والتشجيع والإشادة، كما أنَّ فرق البلدان غير الإسلامية كانت تضم من بين أعضائها لاعبين مسلمين وذوي نجومية عالية، ما يدل على أنَّ الصبغة الدينية التي أسقطت على الفرق هي دعاية شعبوية عمياء، تستغل الدين لتعزيز الدعم في منافسةٍ آخر ما يلاحظ فيها المتنافسون الانتماء الديني، ولا سيما إذا كان المتنافسون أصدقاء ومن الدين نفسه.
تكشف الدعاية العريضة غير الموزونة عن السطحية في الخطاب وتقديم الحجج لنقاد الدعاة في إبراز جهلهم وسطحيتهم
أن يصدُر هذا التوظيف الديني الشعبوي من عوام الناس يمكن أن يفهم على أنه عاطفة وحماسة عفوية، لكن المشكل حقًا أن يصدر من دعاة إسلاميين معتبرين، ويتصدّرون المنابر والمنصّات الدعوية، يتحدّثون عن انتصاراتٍ دعويةٍ حققتها أنشطة كأس العالم، وكأنها من بركاتهم، فاكتشف دعاتنا الميامين أنَّ كأس العام أظهر وحدة الأمة، وكأنها كانت غائبة أو مجهولة لتنتظر كأس العالم لتظهرها، وأن فلسطين حاضرة في ضمير الأمة بدليل رفع الجماهير علم فلسطين ورفض التطبيع، وسيكتشف الدعاة أيضًا أن كأس العالم أظهر فضيلة تكريم الأمهات عند المسلمين، وشكرها للخالق في سجود الشكر عقب الانتصارات، ونحو ذلك من المظاهر العفوية، والتي هي فعل فطري وديني أيضًا، ومن الطبيعي أن يظهر في مواسم كهذه، وقد نوّهت به وسائل إعلام عربية وعالمية. ولكن أن يُحتَفى بذلك على أنه نصر ديني دعوي بهذه المناسبة، فهذا من الشعبوية بمكان، ومن إرسال الكلام على عواهنه، وادّعاء ما لم يُملك شرف السبق إليه أو الفعل فيه.
جانب آخر من الشعبوية الدينية والانتصارات الموهومة ادّعاء أنَّ هذه النسخة من كأس العالم كشفت العنصرية الغربية، والمفارقة أن فرق كرة القدم هي مفخرة الدول الغربية في مكافحة العنصرية، فلا يكاد يخلو فريق أوروبي من لاعبين من أصول أفريقية أو مهاجرة، وأنَّ وصولهم إلى المشاركة دليل على توفير فرص النجاح لهم والفخر بانتصاراتهم، ومنهم مسلمون وملتزمون أيضًا (معظم أعضاء الفريق المغربي منهم). وبالتالي، تكشف هذه الدعاية العريضة غير الموزونة عن السطحية في الخطاب وتقديم الحجج لنقاد الدعاة في إبراز جهلهم وسطحيتهم، ومن يرغب في نقد العنصرية في الغرب، فأبواب ذلك مشرعة في ميادين كثيرة، جديدها أخيرا كرة القدم التي ترى فيها جمعيات مكافحة العنصرية ميدانًا لنشاطها.
مباريات كرة القدم والألعاب الأخرى نشاط علماني دولي عابر للأديان والسياسات والأقاليم، ويُفتَرض أنه محايد تجاهها
شعبوية أخرى جرى استغلالها من خلال مشاهد تُعَرِّف المشجعين إلى الشعائر الدينية الإسلامية، وتجريب الحجاب، ونحوها، وذلك كله أمر طبيعي ومحمود من المشجّعين، وممن يستقبلهم ويعرّفهم إلى الإسلام والعادات الإسلامية والمجتمعية، لكن هذه المظاهر هي من إشباع الفضول في التعارف والتجريب، لا تحمل في نفسها أي قيمة بنفسها، فمن دأب السياح تجريب كل شيء، ومن جرّبت الحجاب ومن حضروا إلى المساجد للتعرّف إلى عبادات المسلمين سيفعلون الأمر نفسه عندما يزورون الهند ويتعرفون إلى أديانها، وكذلك الأمر في بلدان وأديان أخرى، فالغرابة في أوهام من يرى في ذلك نصرًا إسلاميًا من دعاة المونديال ومؤسلميه.
مباريات كرة القدم والألعاب الأخرى نشاط علماني دولي عابر للأديان والسياسات والأقاليم، ويُفتَرض أنه محايد تجاهها، وأن يُستغل من جميع الأطراف لمصالحهم وقضاياهم هذا أمر طبيعي وجار في كل البلدان، ما دامت القوانين تسمح بذلك. أما أن يتوهم طرفٌ ما أن الحدث برمته هو قضيته وعنوان نضاله، وأن كل ما يتحقق فيه من إيجابيات هو من انتصاراته فهذا من الأوهام التي تسيطر على كثير من التدين الشعبوي. ومن السذاجة التي تتكرّر في كل المواسم، والتي تبحث عن انتصاراتٍ في وسط الهزائم.
لقد نجحت قطر في تنظيم كأس العالم، وهذا مفخرة لها كدولة خليجية عربية إسلامية، وحققت أهدافها من استضافة الحدث، والتزمت فيه بمعايير دولية تخصّ تنظيمه، ولها أن تفخر بذلك. ولكل جهة أن تعدّد ما تحقق فيه من إيجابيات لصالح رؤيتها وقضيتها، لكن من الوهم أن تدّعي جهة شيئًا لم يكن أو أن تتخيّل حدوثه.