تفاؤل فلسطيني في غير محله
بدأ تفاؤل يسري في مفاصل السلطة الفلسطينية، المتكلسة والمهمشة بفعل سياسة الرئيس الأميركي، ترامب، العدائية ضدها، وضد مشروعها السياسي المبني على المفاوضات وحل الدولتين ومبدأ الأرض مقابل السلام، وهي أسس تمسّكت بها الإدارات الأميركية المتعاقبة، وإنْ لفظيا وإعلانيا، أدار ترامب وفريقه الظهر لها، وأظهروا انحيازا مطلقا لإسرائيل، مع تبني مقاربات اليمين الإسرائيلي القائمة على فكرة الضم وشرعنة الاستيطان والتنكر لمبدأ حل الدولتين. أبدت السلطة هذا التفاؤل بعد إعلان فوز جون بايدن رئيسا للولايات المتحدة، وهو الذي يتبنى، علنا، حل الدولتين، غير أنه تفاؤل سابق لأوانه، ولا يأخذ في الاعتبار الوقائع على الأرض، ومياها كثيرة جرت في النهر خلال العقد الأخير من حكم نتنياهو واليمين في دولة الاحتلال، وتم تتويجها بسنوات ترامب العجاف.
ستتبدّد أحلام العودة إلى المفاوضات، وإعادة إحياء عملية السلام، أمام الواقع الذي تكرّس على الأرض، والثقافة الجديدة التي تهيمن في إسرائيل، ويتنافس فيها (في انتخاباتٍ يغيب عن جدول أعمالها أي ذكر للقضية الفلسطينية) عتاة رموز اليمين المتطرّف، ممن يؤمنون بأرض إسرائيل الكاملة، ولا يعارضون فقط، بل بنوا سيرتهم السياسية على فكرة محاربة حل الدولتين.
لا يعتبر الليكودي جدعون ساعر ورئيس حزب البيت اليهودي نفتالي بينت، واللذان يقفان على يمين نتنياهو، وينافسانه على رئاسة الحكومة، من دعاة ضم الأراضي الفلسطينية، ومعارضي العودة إلى المفاوضات فقط، بل هما ممن وقفوا في وجه نتنياهو عندما تراجع عن الضم مؤقتا، وهاجما خطاب "بار ايلان" في يونيو/حزيران 2009، وتبنى فيه نتنياهو، لفظيا وتحت ضغط إدارة الرئيس الأميركي السابق، أوباما، حل الدولتين. كما أن لهما سجلا حافلا في دعم الاستيطان وتنفيذ أجندة اليمين، وهو ما أحدث مفارقة تبدو من سخريات القدر، أن يصبح نتنياهو الأكثر اعتدالا في طيف اليمين الآخذ في الاشتداد في إسرائيل.
ستتبدّد أحلام العودة إلى المفاوضات، وإعادة إحياء عملية السلام، أمام الواقع الذي تكرّس على الأرض، والثقافة الجديدة التي تهيمن في إسرائيل
نال اليمين الإسرائيلي الذي يؤمن بإدارة الصراع وإيجاد الحقائق على الأرض دفعة قوية، ليس فقط من الجمهور الذي يصطف خلفه، ويعيد انتخابه كل مرة، ولا من الأحزاب التي كانت تتأرجح في مركز الحلبة السياسية، وباتت تقترب من اليمين في خطابها وبرامجها وشعاراتها، إلى درجةٍ أعلن فيها رئيس بلدية تل أبيب، زعيم حزب "الإسرائيليين الجدد"، روني خولدائي، والذي يعد آخر أملٍ لعودة بعض الروح لأحزاب الوسط، أن الوضع الذي يمكن الحديث فيه عن حل الدولتين قد انتهى، كما يظهر هذا من الدول العربية التي هرعت إلى التطبيع مع دولة الاحتلال، ونفضت يدها من القضية الفلسطينية التي غاب ذكرها تماما في اتفاقيات هذه الدول مع نتنياهو.
الجملة الأكثر تكرارا لدى نتنياهو في سياق تباهيه بالاتفاقيات التطبيعية المجانية بين دولة الاحتلال والدول العربية هي "السلام مقابل السلام"، وأن القضية الفلسطينية لم تعد عقبةً أمام التطبيع العربي الإسرائيلي، وهو بذلك يهيل آخر ذرّة تراب على النهج السابق، وعلى أي أمل في إمكانية العودة إلى المفاوضات المقرونة "بتنازلاتٍ" عن الأرض أو إخلاء للمستوطنات، وهذا كله بدعم شعبي داخلي آخذٍ في الازدياد ومباركة عربية.
لن تكون القضية الفلسطينية في مقدمة اهتمامات بايدن، ولن تجد دعواته إذا ما أطلقت أي استجابة في إسرائيل
أمام تحطم آمال الحل السلمي من خلال مفاوضات ذات مرجعيات متفق عليها تلبي الحد الأدنى من تطلعات الفلسطينيين، بمعولٍ أميركي ويد إسرائيلية وتواطؤ عربي، تقف القيادة الفلسطينية عند النقطة الزمنية نفسها التي استدارت فيها عقارب ساعة الواقع إلى الاتجاه المعاكس لحركة مشروعها، ولا تفتأ تجترّ اللغة الخشبية الميتة نفسها، على أمل أن تحدث المعجزة المنتظرة على ركام الانقسام وارتفاع منسوب التذمر الشعبي وفقدان الثقة بها، وتآكل شرعيتها، وهو مشهدٌ مهينٌ تصبح فيه كلمة العودة إلى المفاوضات أشبه بنداء استغاثةٍ مفعم باليأس، ومن دون أي مقومات أو روافع.
يتراوح الحل الإسرائيلي الوحيد المطروح على جدول الأعمال بين الضم، كما يراه اليمين، والتوافق مع إدارة بايدن على استراتيجية قائمة على مبدأ الانفصال السياسي والجغرافي والديمغرافي عن الفلسطينيين، وهي كلماتٌ منمقةٌ تشير، بشكلٍ مبطّن، إلى حلٍّ سقفه حكم ذاتي محدود على السكان، وهي استراتيجيةٌ أوصى بها مركز أبحاث الأمن القومي الذي عارض الضم، ويعتبر أحد مراكز التفكير الاستراتيجي المعبّر عن تطلعات اليسار التقليدي وحزب العمل في آخر تقاريره.
من سخريات القدر أن يصبح نتنياهو الأكثر اعتدالاً في طيف اليمين في إسرائيل
لن تكون القضية الفلسطينية في مقدمة اهتمامات بايدن، ولن تجد دعواته إذا ما أطلقت أي استجابة في إسرائيل، وهو ما يفرض على السلطة الفلسطينية، بدل أن ترسل رسائل أقرب إلى الاستجداء لعودة المفاوضات، أن تعيد النظر في سياساتها وخطابها وأولوياتها، وأن تعيد بناء علاقاتها الداخلية مع شعبها وبقية الفصائل على أسسٍ جديدة قائمة على الشراكة والإعداد لمواجهة سياسية وميدانية طويلة النفس، من أجل إعادة فرض مشروعها المحمي شعبيا، والمتوافق عليه داخليا، والمحمول على أسس مؤسساتية متينة ومنتخبة.
إنجاز هذا الانقلاب الذي لا يحتمل التأجيل سيمكّن الفلسطينيين من البدء بالبحث عن حلٍّ لا يقوم على المفاوضات بصيغتها السابقة، وهي صيغةٌ ماتت وشبعت موتا، بل على أسسٍ تستند إلى صيغ مؤتمر دولي، أو حشد دعم عالمي وعربي لمبادراتٍ فورية التنفيذ، أو أية صيغة تنتج عن الحالة الديناميكية التي ستولد إذا ما قطعت القيادة الحالية شعرة معاوية التي تحاول من خلالها أن تمسك الواقع الذي ولّى، وأن تحجب واقعا داخليا، لا زال في طور المخاض، على الرغم من مرور موعد الولادة.