بايدن والجيل الثاني من المستوطنين

11 فبراير 2021
+ الخط -

أكثر ما هو عالق في ذاكرة الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، في ما يتعلق بالشرق الأوسط والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الإهانة التي تلقاها، عشية زيارته القدس المحتلة في العام 2011، عندما كان نائبا للرئيس أوباما، ومحاولته إحياء جولة أخرى من جولات مفاوضات "عملية السلام". نتنياهو الذي حظي بتلقي إطراء علني نادر، وغير معتاد من إدارة أوباما على لسان نائب الرئيس، الشخص الوحيد الذي يكنّ له الود من بين أركان الإدارة الأميركية، رد الجميل لنائب الرئيس، وللرئيس من خلفه، بأن سمح للجنة البناء والتخطيط في بلدية الاحتلال في القدس بالإعلان عن بناء 1600 وحدة استيطانية شرقي المدينة المقدسة، الأمر الذي لم يفشل زيارة بايدن تلك فقط، بل اعتبر الإهانة العلنية الأكثر إيلاما التي يتلقاها نائب رئيس أميركي من الحليفة الصغرى في الشرق الأوسط.

سيذكر بايدن هذه الإهانة، وهو يعد أوراقه من جديد على كرسي الرئاسة هذه المرّة، وهو أمر لن يفتح شهيته للدخول في صدام مع الشخص نفسه (نتنياهو)، وقد أحاط الأخير نفسه بحلفٍ عربي جديد وعلني، عقد معه اتفاقيات تطبيع من خلف ظهر الفلسطينيين، وغضّ الطرف عن التوسع الاستيطاني، كما أنه يشاركه وجهة النظر نفسها في ما يتعلق بالملف الإيراني، ويسعى إلى مراكمة حقائق على الأرض، لجعل مهمته في المنطقة شبه مستحيلة.

في ليلة تنصيب الرئيس بايدن، وبينما كانت أنظار العالم تتجه إلى واشنطن، كانت مجموعات ما تعرف بـ"شبيبة التلال" تقطع شوارع الضفة الغربية، وتعتدي على سيارات فلسطينيين وأملاكهم، في مشهد أصبح مألوفا، ويهدّد بتفجير الأوضاع على الأرض. و"شبيبة التلال" هم الجيل الثاني من المستوطنين الأيديولوجيين المتطرّفين الذين نموا خارج المؤسسة الرسمية الإسرائيلية التي تجمعهم بها علاقة صدامية. يختلف تكوينهم عن الجيل المؤسس الذي سار في ظل المؤسسة، وشكّل ما يشبه اللوبي في داخلها، فهم يعيشون في التلال، ويمارسون نمط حياة أقرب إلى البداوة ورعي الأغنام، حيث يقيمون بؤرا استيطانية على كل تلة يمكنهم الوصول إليها خارج المستوطنات القائمة، ويبادرون إلى الاعتداء على الفلسطينيين وتحدّيهم بشكل شبه يومي، ولا يتورّعون عن الاصطدام بشرطة الاحتلال وجيشه، كما أن الاعتبارات السياسية الداخلية والخارجية لا تعني لهم شيئا.

الآمال بإمكانية توقع إقدام بايدن المحاط بعشرات الملفات المتراكمة من عهد ترامب داخليا وخارجيا، على الضغط على نتنياهو في قضية الاستيطان، شبه مستحيلة.

هذا الجيل المتوحش من المستوطنين لا يفرض الحقائق الاستيطانية على الأرض فقط، بل يمثل تحديا أمنيا وسياسيا وداخليا أمام المؤسسة الرسمية في إسرائيل، بسبب عدم انضباطه وعنفه المفرط ضد الفلسطينيين، واستخفافه بالقيم التي نشأ عليها الجيل الأول من المستوطنين الذي كان، على الرغم من التعارض الأيديولوجي وتضارب المصالح أحيانا، إلا أنه كان يحرّم الاعتداء على قوات الأمن والجيش، وحافظ على حالة من التوازن التاريخي بين المستوطنين والمستويين، السياسي والأمني.

حملات الانتخابات الطويلة التي تشهدها إسرائيل منذ عامين، والتي يتنافس فيها اليمين مع اليمين الأكثر تشدّدا، إلى جانب اتفاقيات التطبيع العربية الإسرائيلية التي جاءت في ظل إدارة أميركية لا ترى في الاستيطان عقبة أمام عملية سلامٍ لا تريدها ونسفت أسسها، أو سلوكا غير قانوني يتنافى مع القانون الدولي، إلى جانب مشروع الضم الذي باركته "صفقة القرن"، وجاءت تعبيرا عن جوهره، كلها عوامل لعبت لصالح إرهاب "شبيبة التلال" وانفلاتهم الاستيطاني وعنفهم ضد الفلسطينيين.

أصبح نتنياهو أكثر شراسة بعد حكم ترامب والحقائق التي فرضها على الأرض

رمزية هذا التزامن بين إرهاب "شبيبة التلال" في شوارع الضفة وحفل التنصيب في البيت الأبيض تجعل الآمال بإمكانية توقع إقدام بايدن المحاط بعشرات الملفات المتراكمة من عهد ترامب داخليا وخارجيا، على الضغط على نتنياهو في قضية الاستيطان، شبه مستحيلة. ولن ينسى بايدن، المخضرم في الحلبة السياسية الأميركية ما قاله رفيقه ورئيسه السابق باراك أوباما، في مقابلة صحافية لخص فيها فترة حكمه ثماني سنوات، اعتبر فيها أن الفشل الأهم في سياسته الخارجية هو في تحقيق السلام، أو بكلمات أخرى فشله في انتزاع موافقة من نتنياهو على وقف الاستيطان، وجعل السلام أمرا ممكنا. ويدرك بايدن أن الشرق الأوسط الذي اشتكى منه رئيسه السابق تغير كثيرا خلال السنوات الأربع الأخيرة، وأن نتنياهو الذي تجرأ على إهانته علنا في 2011، وتحدى رئيسه في الساحة الداخلية الأميركية، وألّب الكونغرس ضده عندما ألقى خطابا عدوانيا عارض فيه الاتفاق النووي الذي توصل إليه مع إيران، أصبح أكثر شراسة بعد حكم ترامب والحقائق التي فرضها على الأرض، والشوط الذي قطعه لصالح اليمين في إسرائيل، وأيضا بسبب التنافس الحادّ في الانتخابات، ومن حلفائه السابقين الذين باتوا يقفون على يمينه، وبعد أن وجد حضنا دافئا عربيا تجسّد في اتفاقيات التطبيع.

سيكون الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في خريف عمره، وسلطته الضعيفة والمنقسمة على ذاتها والتي ينخرها الفساد، الحلقة الأضعف التي سيحاول بايدن، بقليل من الآمال والوعود اللفظية، بثّ بعض الروح فيها، من خلال تحسين علاقة إدارته معها، وفتح أبواب البيت الأبيض أمام رئيسها ودعمها ماديا، وكسب مزيد من الوقت، وتسكين المنطقة، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.

BE9B6931-5C99-4DCB-804C-C3EF22258028
BE9B6931-5C99-4DCB-804C-C3EF22258028
عصمت منصور

أسير فلسطيني محرر وكاتب وروائي

عصمت منصور