تعز وتجاذبات مراكز النفوذ في اليمن

11 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

تتضافر امتيازات المدن اليمنية، من مدن الموارد الاستراتيجية إلى مدن الثقل السياسي، في تحديد مناطق نفوذ المتدخلين الإقليميين، بحيث ترتّب عليه تسييج مدن مغلقة لنفوذ أحادي، وأخرى متنازع عليها. وإذا كانت القوة العسكرية قد فرضت سلطة وكلائهم في بعض المدن، فإن توظيف أشكال التدخّلات الاقتصادية، وقبلها التنموية، تحوّل، في الوقت الحالي، إلى جزء من سلاح إدارة النفوذ، بما يتعدّى تسيس مشاريع إعادة إعمار اليمن وتنفيذ مشاريع خدمية إلى تثبيت مركز حلفائها المحليين، أو على الأقل كسر احتكار منافسيهم في السلطة، إلى جانب استغلال اختلالات السلطة المحلية، وتثبيت حضور الدولة في غاياتٍ سياسية، وهو ما يتجلّى في مدينة تعز التي باتت أخيراً وجهة لإدارة تنافسات بين مراكز النفوذ القديمة والجديدة وبالطبع حلفائهم الإقليميين.

خلافاً لمدن الموارد، وأيضاً لمدن الثقل السياسي التي شكّلت بؤرة للتنافس السعودي - الإماراتي في اليمن، فإن افتقار مدينة تعز الموارد، إلى جانب أبعاد دورها الوظيفي في سنوات الحرب، وأيضاً أيديولوجية القوى السياسية المهيمنة على السلطة، جعلتها عملياً خارج اهتمام المتدخّلين الإقليميين، ومن ثم لا تشكّل أهمية تُذكر لتثبيت نفوذها، إذ إنّ اقتصار دورها الوظيفي على كونها ساحةَ استنزاف للمتصارعين، سواء أطراف الحرب الرئيسية أو الحلفاء المتنافسون من القوى المنضوية في منظومة السلطة الشرعية سابقاً، ترتّب عليه فرض واقع عسكري وسياسي واقتصادي واجتماعي أيضاً هيمن على المدينة وعلى مساراتها ومستقبلها، فمن انقسامها جغرافياً بين المناطق التي تخضع لسلطة جماعة الحوثي، والمناطق التي تخضع للسلطة الشرعية، والذي انعكس على مؤسّسات الدولة، وعلى مظاهر الحياة اليومية للمواطنين، إلى هيمنة حزب التجمّع اليمني للإصلاح على السلطة المحلية في المناطق الخاضعة للسلطة الشرعية، مع حضور شكليّ للأحزاب القومية واليسارية، وهو ما ضاعف حدّة الاستقطابات السياسية بين المتنافسين. ومع تشكيل سلطة المجلس الرئاسي، تغيّرت المعادلة السياسية في مدينة تعز التي كانت محسومة لصالح حزب الإصلاح، وذلك جرّاء تنامي نفوذ حلفاء الإمارات من خلال تكريس سلطة حزب المؤتمر الشعبي العام في منطقة الساحل الغربي، ممثلة بقوات العميد طارق صالح، بحيث أدّى ذلك إلى مأسسة نموذجين للسلطة في المناطق المحرّرة في مدينة تعز، سلطة حلفاء الإمارات مقابل سلطة حزب الإصلاح، إلى جانب تحوّل الدعم الإماراتي إلى سلاح في معركة تثبيت مركز نفوذ حليفها المحلي، والذي يعني تثبيت نفوذها دولة متدخّلة في المقام الأول، بحيث تركز الدعم الإماراتي في منطقة الساحل الغربي، من تنفيذ مشاريع خدمية، وإعادة تأهيل مطار المخا، بحيث عزّزت من ثقل "المؤتمر" سياسيّاً وشعبياً، إلى جانب تحويل الساحل الغربي إلى منطقة جاذبة تتركّز فيها المشاريع، بما في ذلك مقرّات المنظّمات الدولية والإغاثية العاملة في تعز، فيما تحوّلت المناطق الخاضعة لسلطة "الإصلاح" إلى منطقة غير آمنة وطاردة أيضاً. في المقابل، سعت السعودية إلى مضاعفة نفوذها في تعز من خلال مشاريع إعادة الإعمار، بهدف تحقيق نوع من التوازن مع النفوذ الإماراتي المهيمن في منطقة الساحل الغربي، إضافة إلى محاولة كسر هيمنة "الإصلاح" في مناطق الشرعية، وذلك من خلال تثبيت سلطة رئيس المجلس الرئاسي، رشاد العليمي، رئيساً للدولة اليمنية.

سعت السعودية إلى مضاعفة نفوذها في تعز من خلال مشاريع إعادة الإعمار، بهدف تحقيق نوع من التوازن مع النفوذ الإماراتي المهيمن في الساحل الغربي

شكّلت مضامين زيارة العليمي أخيراً مدينة تعز والتوجيهات الرئاسية الصادرة للسلطة المحلية تتويجاً لسياسته، القائمة على بعدين؛ تعميق النفوذ السعودي في المدن المحرّرة، والبعد الآخر تبنّي سياسة متوازنة، وأيضاً احتوائية، في إدارة علاقته مع القوى المحلية المتنافسة، بما يؤدّي إلى تقليم انفراد طرف سياسي في السلطة على حساب القوى الأخرى. وفي هذه الحالة، حزب التجمّع اليمني للإصلاح في تعز. وإذا كان العليمي قد ظلّ رجل الرياض بامتياز، فإن سياسته في إدارة سلطة المجلس الرئاسي، وطبيعة أجندته التي تنعكس برامجياً في جولته في المدن المحرّرة، تحوي جوهر تعزيز النفوذ السعودي بوسائل عديدة، بدءاً بمدينة حضرموت، حيث استطاع، من خلال سلطته رئيساً للمجلس الرئاسي، مضاعفة النفوذ السعودي، سياسياً، بتحقيق اختراقٍ في هيمنة القوى الجنوبية الموالية للإمارات على السلطة المحلية، وعسكرياً بتمكين قوات درع الوطن، المموّلة سعودياً، والتي تخضع لسلطته بإدارة منفذ الوديعة في مدينة حضرموت، أهم منفذ برّي يربط بين اليمن والسعودية، إلى جانب تنفيذ مشاريع مموّلة من السعودية. وإذا كانت تنمية النفوذ السعودي في المدن التي لا تشكّل بيئة مواتية لتوليد ولاءات إقليمية ثابتة، كمدينة تعز، تعيق استراتيجية رئيس المجلس الرئاسي، فإن إعلانه، في أثناء زيارته تعز، تنفيذ مشاريع مستقبلية بتمويل سعودي، في وسط المدينة، ومن ثم خارج منطقة الساحل الغربي التي تدعمها الإمارات، يعني محاولة لتثبيت نفوذ السعودية، من خلال استثمار الحاجة الشعبية لمشاريع خدمية. ومع صعوبة تأسيس كيانات عسكرية جديدة في مدينة تعز، بسبب تعدّد الألوية العسكرية وهيمنة قوى سياسية عليها، بحيث قد ينقل الصراع إلى مستوى آخر، فإن توسيع النطاقات الجغرافية التي تسيطر عليها قوات درع الوطن، وذلك بإنشاء معسكرات جديدة في مدينة لحج، المحاذية لتعز، يعني شكلاً من الحضور السعودي، وأيضاً نزع، أو على الأقل إعاقة، انفراد القوات العسكرية الموالية لـ"الإصلاح" من إجراءات تأمين الجبهة العسكرية الجنوبية لمدينة تعز. وسياسياً، يهدف العليمي إلى إيجاد اصطفاف سياسي يحقّق توازناً مع حزب الإصلاح المهيمن سياسياً، من خلال تثبيت مركز حزب المؤتمر الشعبي العام الذي ينتمي إليه رئيس المجلس الرئاسي، وأيضاً استقطاب القطاعات الشبابية القومية واليسارية لمشروعه السياسي، وأيضاً استثمار انتمائه إلى مدينة تعز لمضاعفة شعبيّته، ومع أن الرجل هو مهندس تقييد سلطة حزب الإصلاح في المدن الجنوبية، من شبوة إلى حضرموت، فإن تطبيق هذه السياسة في تعز يصطدم بعوائق عديدة، ولذلك لجأ إلى وسائل أخرى لتحقيق استراتيجيته على المدى البعيد.

تمثل إخفاقات السلطة المحلية في تعز ملمحاً واضحاً في أزمتها سلطة تنفيذية، من فسادها، إلى فشلها في تثبيت حضور مؤسّسات الدولة، إلى جانب تعطيل الخدمات العامة، وغياب الأمن، وهو ما شكّل محور توجيهات الرئيس العليمي في زيارته تعز، من مطالبة السلطة المحلية بتثبيت مظاهر الدولة، إلى إمهالها ستة أشهر لتحقيق ذلك، بيد أن التوجيهات الرئاسية، مع صدقيّتها، غُلّفت ببعد سياسي، سواء في مضامينها أو في التأويلات المصاحبة للتوجيهات. ومع عيوب التجربة الإدارية لحزب الإصلاح في إدارة السلطة المحلية التي يهمين عليها، فإن اختلالاتها تكمن في استراتيجية المحاصصة السياسية التي انعكست على بنية السلطة، ترتّب عليه تماهي القوى السياسية المختلفة والمنضوية في السلطة مع حالة الفساد الإداري والمالي، إلا أن هيمنة حزب الإصلاح منحت الفساد بعداً سياسياً، أكثر من كونه أدائياً ووظيفياً، مقابل اكتفاء القوى الأخرى بالمشاركة بالسلطة من دون تحمّل مسؤولية الفشل، عدا استثمارها الغضب الشعبي من قصور أداء السلطة المحلية في استعداء "الإصلاح".

تطبيع الوضع المدني وإزالة المظاهر المسلّحة وتمكين المواطنين من العودة إلى منازلهم، تستلزم خطّة شاملة وترتيباتٍ تُفضي إلى تحقيق ذلك

وإذا كانت استعادة حضور الدولة اليمنية تمثل مطلباً وطنياً، فإن تحقيق ذاك يقتضي أكثر من خطاب رئاسي عابر وموجه، بل خطّة متكاملة تعمل على إصلاح مؤسّسات الدولة، لا في مدينة تعز فقط، بل في جميع المدن اليمنية، بدءاً بتحييد المؤسّسات من صراعات الهيمنة والنفوذ بين القوى السياسية المتنافسة وحلفائه الإقليميين، إلى تبنّي استراتيجية عليا، بدءاً بمنظومة المجلس الرئاسي والحكومة، والسلطات المحلية، تُرسي مبدأ الشفافية والحوكمة، وقبلها محاربة الفساد وبنيته، من ترشيد الإنفاق العام إلى تحويل المتورطين في جرائم فساد وناهبي المال العام إلى المحاكم المحلية، إضافة إلى بلورة استراتيجية واضحة تعمل على تفعيل قطاعات المؤسسات الخدمية، إلى جانب تثبيت الأمن واحترام سيادة القانون وقيم المواطنية المتساوية. في المقابل، تكشف التوجيهات الرئاسية بإخلاء المرافق الحكومية والمنشآت المدنية من المظاهر المسلّحة في مدينة تعز طغيان القوات العسكرية والأمنية على السلطة المدنية، وتجييرها لصالح قياداتها، ويتمظهر ذلك باحتلال مؤسّسات الدولة، والمنشآت المدنية، كالمدارس الحكومية والأندية الرياضية، وتحويلها إلى مقرّات عسكرية، وكذلك مصادرة منازل المواطنين في مناطق التماس ونهبها من قبل قيادات عسكرية وأمراء الحرب، وهو ما يتماهى مع تجارب مماثلة في مدينة عدن وفي المناطق الخاضعة لسلطة جماعة الحوثي، بيد أن تطبيع الوضع المدني وإزالة المظاهر المسلّحة وتمكين المواطنين من العودة إلى منازلهم، تستلزم خطّة شاملة وترتيباتٍ تُفضي إلى تحقيق ذلك، من رصد عملياتي لحالات عسكرة المنشآت والمدارس، ونهب منازل المواطنين وأراضيهم، واتخاذ إجراءات حازمة في حقّ المتنفذين. عدا ذلك، لا تعدو الأوامر الرئاسية، وإن ضمنت بمطالب اللجنة الأمنية العليا، كونها تعريضاً سياسياً بحزب الإصلاح الذي يحتل مؤسّسات للدولة ومدارس في مدينة تعز، التي أصبحت مقرّات للقوات العسكرية التابعة له منذ سنوات، ومن ثم فإن التوجيهات الرئاسية، وإن جاءت تحت غطاء تعزيز حضور الدولة في مدينةٍ متنازع عليها، فإن أبعادها تهدف إلى محاولة تغيير المعادلة المحلية المستتبّة لحزب الإصلاح، أو على الأقل إرباكها، والذي يصبّ بالطبع في صالح السعودية، وأيضاً الإمارات وحلفائها، وإن كان من الصعب تحقيق ذلك.