تعز .. الفساد يدير الحرب
للفساد في اليمن أوجه عديدة، متداخلة، لا يمكن الفصل بينها، بحيث راكم عبر سنوات الحرب أدواته، ووظّف حالة الحرب وتشظّي الدولة وتنامي المليشيات لتجذير بنيته. وفي هذا السياق، يشكّل الفساد في مؤسسات الدولة أحد أخطر المشكلات التي تواجه اليمنيين اليوم، فغياب دولةٍ مركزيةٍ تنظم عمل المؤسسات، وتسيطر على إيراداتها، مكّن سلطات الأمر الواقع من استنزاف موارد الدولة لمصلحتها على حساب استمرار تجويع اليمنيين، ومع تشابه صيرورة مؤسسات الدولة في المدن اليمنية، وتغلغل شبكة الفساد في مفاصلها، إلا أن عوامل أخرى، أكثر ديناميكةً وفاعليةً، جذّرت من بنية الفساد في مؤسسات الدولة في مدينة تعز، إذ إن تعدد الأطر السياسية لمنظومة السلطة الحاكمة، بتفرّعاتها المدنية والعسكرية، وازدواج السلطات، مكّن الفساد من العمل تحت مظلاتٍ رسميةٍ متنوعة، وفّرت له الحماية والإفلات من المساءلة، كما أن تنامي حالة الاستقطاب السياسي في مدينة تعز، نتيجة سيطرة الأحزاب على الفضاء الاجتماعي والسياسي والمدني، بما في ذلك مؤسسات الدولة، حرف مسار الحراك الشعبي الذي تشهده المدينة منذ أسابيع للمطالبة بمكافحة الفساد، بحيث أفقد الحراك الشعبي قوته المطلبية.
تغوّل سلطة مديري مؤسسات الدولة التي تتنازعها السلطة الحزبية، وإن لم يكن بالتساوي بين الأحزاب، ضاعف من اختلالات مؤسّسات الدولة
تمثل تركيبة السلطة في مدينة تعز إحدى العقبات الرئيسية التي أعاقت عمل مؤسسات الدولة، بحيث أثّرت على وظيفتها، وتحوّلت، مع الوقت، إلى حاجزٍ يعيق فرص إصلاح اختلالات مؤسسات الدولة وأجهزتها، بحيث أصبحت مجالا حيويا لتنامي الفساد، ففي مقابل تقليص سلطة رأس السلطة المحلية، محافظ المحافظة، نبيل شمسان، الذي يفتقر للمهارة الإدارية والمسؤولية السياسية في إدارة المحافظة، بحيث تواطأ مع شبكة الفساد مقابل احتفاظه بمنصبه، متيحاً لسلطة وكلاء المحافظ الذين يمثلون الأحزاب السياسية منازعته سلطته، ومن ثم تداخل صلاحيات الوكلاء مع صلاحيات المحافظ، فإن تغوّل سلطة مديري مؤسسات الدولة التي تتنازعها السلطة الحزبية، وإن لم يكن بالتساوي بين الأحزاب، ضاعف من اختلالات مؤسّسات الدولة، كما أدّى تعدّد الأطر السياسية التي تعمل وفقها الأحزاب، وتنازعها على السلطة إلى تعقيد المشهد، ففي أعلى هرم السلطة المحلية، تتركّز سلطة حزب التجمع اليمني للإصلاح، فإلى جانب سيطرته على المؤسسة العسكرية، يمتلك الحزب النسبة الأعلى في مؤسسات الدولة المدنية، سواء حصته من وكلاء المحافظ أو مديري مؤسسات الدولة وكذلك مديري المديريات، يليه حزب المؤتمر الشعبي العام الذي يحتكر جزءا كبيرا من مفاصل الدولة التي تعد بقايا الدولة العميقة، إلى جانب التمثيل الذي حظي به في السنوات الأخيرة تعويضا عن إزاحته من سلطة صنعاء. وأخيراً الحزب الاشتراكي اليمني والتنظيم الوحدوي الناصري، بحيث أثّرت هذه الترويكا المختلّة والتنافسية على إدارة مؤسسات الدولة، وأصبحت أهم بؤر الفساد المنظّم.
أخطر نتائج تشوّهات السلطة في مدينة تعز، أنتجتها المحاصصة السياسية، وكرّستها المرحلة الانتقالية في إدارة الدولة اليمنية هو تعدّد مستويات الأطر السياسية التي تعمل وفقها الأحزاب، بحيث ظلّت تعز حالة استثنائية عن المدن اليمنية الأخرى، فإضافة إلى سلطة وكلاء المحافظ، ومديري مؤسسات الدولة، إلى جانب مديري المديريات، وكذلك فروعها الحزبية، تتداخل مستوياتٌ عليا من الصراع الوظيفي، ممثلةً بسلطة وزراء الحكومة المحسوبين على هذه الأحزاب، بحيث عمّق حالة الاستقطاب السياسي وتداخل الصلاحيات في مؤسسات الدولة، بما في ذلك توظيف الأحزاب وأطرها السياسية المحاصصة، لحماية منظومة الفساد التي هي جزء منها؛ ففي حين استفاد حزب الإصلاح من الشراكة غير المتكافئة للأحزاب السياسية في مؤسسات الدولة المدنية، للتغطية على قيادته المتورّطة في الفساد، وتوجيه المعركة ضد خصومه، وتحديداً حزب المؤتمر الشعبي العام والتنظيم الناصري، حيث انتقل إلى مربع المعارضة، تماماً كالأحزاب الأخرى التي نقلت معاركها ضد الإصلاح إلى الشارع، وتجاهلت مسؤوليتها عن قضايا الفساد، إلا أن حزب الإصلاح الذي يمتلك أوراقا متعدّدة في إدارة معاركه، والتي تمثل تنويعاتٍ لسلطة المؤسسة العسكرية التي طالما زجّها في صراعه السياسي ضد خصومه، بحيث حوّل سلطة "الجبهات"، عبر هذه السنوات، إلى سلطةٍ معنويةٍ وعسكريةٍ رديفةٍ له لإرهاب خصومه، تمكّن من فرض سلطته بالقوة، وتوجيه معركة الفساد لتحقيق أغراضه السياسية.
تمثل تركيبة السلطة في مدينة تعز إحدى العقبات الرئيسية التي أعاقت عمل مؤسسات الدولة، بحيث أثّرت على وظيفتها
وفي هذا السياق، لم يكن شعار "مغلق من قبل الجبهات" الذي كتب على واجهات مؤسسات الدولة بعد أن اقتحمها أخيرا عناصر مسلحون ينتسبون لألوية الجيش التابعة لحزب الإصلاح سوى تجلٍّ لمالآت مؤسسة الجيش المملشنة، بحيث انتقلت من وظيفتها القتالية في جبهات الحرب إلى توجيه عنفها المسلّح ضد المظاهر المدنية داخل مؤسسات الدولة، لإعاقة تقديم المسؤولين الفاسدين إلى القضاء، وأيضا حوّلت وظيفتها الافتراضية إلى قتال مقاتلي جماعة الحوثي إلى استحقاق سياسي واقتصادي، يفرض على المجتمع دفع الأتاوات ورفد الجبهات "المتوقفة" بالمال، في استنساخٍ مقيت لتجربة "اللجان الشعبية" التابعة لجماعة الحوثي التي تغلق المحلات في المناطق الخاضعة لها، في حال لم يدفع المجتمع "مجهودا حربيا" لدعم مقاتليها في الجبهات. فيما تعكس "سلطة الجبهات" حقيقة البنية المشوّهة لما أصبح عليه الجيش اليمني عموماً، بما في ذلك مدينة تعز، حيث يسيطر عليه بعض أفراد العصابات والمطلوبين أمنياً و"فتوات" الحواري الذين دفعتهم الحرب والحاجة المالية إلى الانخراط في الجيش، إلا أن توقف جبهات الحرب في مدينة تعز، وانكفائها إلى جبهاتٍ سياسيةٍ يوظفها الطرف المهيمن على المؤسسة العسكرية، أدّى إلى تحولها إلى ورقةٍ ناجحةٍ لحزب الإصلاح، يوظفها بحسب سياقات الضرورة السياسية، إضافة إلى أن سلطة "الجبهات "غير المنضبطة" والتي لا تحترم وظيفة الجيش ولا تقاليده، قصّرت مهامها في الوقت الحالي على التعدّي على مؤسسات الدولة المدنية، ما يكشف عن طغيان السلطة العسكرية على السلطة المدنية وإضعافها، الأمر الذي يجعلها غير مستقلةٍ ومحكومةً باختلالات المؤسسة العسكرية والجبهات، ومن ثم تحوّلت هذه القوى المنفلتة إلى خطر حقيقي يتهدّد المجتمع.
إلى ذلك، اتّخذ حزب المؤتمر الشعبي العام، الشريك الرئيس في مؤسسات الدولة، من سلطة وكيل محافظ تعز، الشيخ عارف جامل، ذراعاً سياسية لفرض سطوته الاجتماعية والسياسية، كأحد أمراء الحرب المحليين الجدد، ولمنازعة سلطة وكلاء حزب الإصلاح، كما وظّف فساد خصمه الذي لا يختلف كثيرا عنه أداةً سياسيةً لمواجهة سطوة حزب الإصلاح، مقابل حماية قياداته السياسية في مؤسسات الدولة المتورّطة بقضايا فساد، فيما دفع عناصره الحزبية في المظاهرات الشعبية التي تشهدها مدينة تعز، بهدف تحويل المعركة الشعبية ضد قوى الفساد الحزبية المهيمنة على مؤسسات الدولة إلى معركةٍ سياسيةٍ ضد خصمه حزب الإصلاح، معتمدا على تضرّر الاحزاب الثانوية من هيمنة حزب الإصلاح، ونسج تحالفاتٍ سياسيةٍ للنيل من خصمه واستهدافه.
في المناطق المحرّرة من مليشيات جماعة الحوثي في مدينة تعز، تترادف سلطة مليشيات أخرى لا تختلف عنها كثيراً
في المقابل، فرضت الأدوار الهامشية للحزب الاشتراكي اليمني والتنظيم الناصري في السلطة المحلية ومؤسسات الدولة جعلها رديفا سياسيا للأحزاب الأكثر فاعليةً وحضورا اجتماعيا، الأمر الذي عكس هشاشة الأحزاب اليسارية والقومية، فإضافة إلى أنها شريكةٌ في مآلات الأوضاع السياسية والاقتصادية الكارثية كالأحزاب الأخرى، بما في ذلك قضايا الفساد في مؤسّسات الدولة، فإن قصور أدواتها السياسية في التعاطي مع هذه التحدّيات، جعلها تتموضع في هامش سياسيٍّ ضيقٍ للتعبير عن سخطها من هيمنة حزب الإصلاح، وليس لرفضها تغلغل الفساد في مفاصل الدولة الذي صمتت عنه طوال هذه السنوات، ما يجعلها شريكةً في تردّي الأوضاع في المدينة، إذ إن المسؤولية السياسية والأخلاقية كانت تحتّم عليها سحب ممثليها من السلطة المحلية، وكذلك تقديم مديري المؤسسات التابعين لها استقالتهم من مناصبهم احتجاجاً على الفساد، بحيث يحمّل "الإصلاح" مسؤولية الفساد في مؤسّسات الدولة، بما في ذلك توظيف المؤسسة العسكرية والجبهات لمصلحته، إلا أن هذه الأحزاب التي أدمنت قلة الحيلة، وتفرح بأي تمثيلٍ سياسيٍّ، حتى لو كان ضئيلاً، ويكلفها أعباءً أخلاقية، اكتفت بإصدار بيان مشترك مناهض للفساد، ودعم الاحتجاجات الشعبية، وأيضا بيان مشترك لوكلائها في السلطة المحلية لدفع شبهات الفساد عنهما، كما لجأت إلى حيلها القديمة، بوضع رجلٍ في السلطة ورجلٍ في المعارضة. ومن ثم لم تستفد الأحزاب اليمنية من أخطائها السابقة، بما في ذلك تجربة الحرب، بحيث ما زالت تحتمي بحراك الشارع المدني لفرض استحقاقها، والتنصّل من المسؤولية المترتبة على انخراطها في السلطة، ما يعدّ سقوطا مريعا لأحزابٍ كانت يوما ما حاملا سياسيا للقوى المجتمعية المقهورة.
في المناطق المحرّرة من مليشيات جماعة الحوثي في مدينة تعز، تترادف سلطة مليشيات أخرى لا تختلف عنها كثيراً، وإن اتّخذت غطاء الدولة لتمرير مشاريعها الصغيرة، بحيث حوّلت المؤسسة العسكرية إلى سلطةٍ منفلتةٍ تقوّض مؤسسات الدولة المدنية، فيما تتقمّص أحزاب السلطة أدوار أحزاب المعارضة. وفي منطقة الظل هذه، لا شيء سوى تغوّل فساد السلطة الحاكمة وصراع زعامات الحرب وانتهازية الأحزاب، فيما يدفع المواطن وحده كلفة هذا التناحر السياسي المستمر، إضافة إلى كلفة حصار جماعة الحوثي على المواطنين، فإذا كان حزب الإصلاح يتفرّد بأنه قوة الطغيان العمياء، فإن أحزاب الفرص الضئيلة هي من شرعن هذا الوضع وأنتجه، وإنْ ناورت اليوم في مربع المغلوب على أمره.