تحريف مفاهيم القانون الدولي لصالح الاحتلال الإسرائيلي
تعتمد الآلة الدعائية للاحتلال الإسرائيلي على تحريف مفاهيم القانون الدولي، لتظهر دولة الاحتلال وكأنها دولة طبيعية، تواجه ما تعتبرها أعمالًا إرهابية أو عدائية، ما يدفعها إلى استخدام القوّة للدفاع عن نفسها وعن مواطنيها. في هذا السياق، تصبح المقاومة، سواء المسلحة أو بصور أخرى سلمية، إرهابًا، ويصبح الاحتلال والعدوان بمثابة حقّ دولة في الدفاع عن نفسها. تصدّر دولة الاحتلال هذا الخطاب لتبرير التصعيد العسكري الغاشم الذي يجري حالياً في قطاع غزّة من الاحتلال الإسرائيلي في مواجهة عملية طوفان الأقصى غير المسبوقة. وقد تبنّت دولٌ كبرى، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، هذه السردية على مدار الأيام السابقة، في محاولة لتصوير إسرائيل ضحيةً تستحقّ التضامن والحماية الدوليين. وقد تكرر الخطاب نفسه عندما شنّت دولة الاحتلال عدوانًا مسلحًا واسع النطاق في مناسبات مختلفة ضد غزّة أو لبنان. يسعى هذا الخطاب السياسي والقانوني المحرّف إلى عزل تجدّد الغضب والمقاومة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عن سياق الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وتاريخه وسياساته، وعن ممارسات الفصل العنصري (الأبارتهايد) التي أصبحت واقعًا يوميًا يعيشه الفلسطينيون. إن أي تعامل دولي أو إقليمي مع الأزمات التي تندلع بين دولة الاحتلال وفصائل المقاومة يجب أن يستند إلى علاج الجذور الحقيقية لهذه الأزمات التي تكمن في واقع الاحتلال، واستمرار المظالم التاريخية للشعب الفلسطيني.
لجأت إسرائيل إلى إقحام خطاب مكافحة الإرهاب في سياق الاحتلال لتقوض مرجعية القانون الدولي الإنساني، والذي هو المعني بتنظيم قواعد الاشتباك بين قوات الاحتلال والمقاومة. وقد لاقى هذا الأمر دعمًا وتشجيعًا من بعض الدول الغربية، خصوصًا في السياق العالمي بعد هجمات 11 سبتمبر (2001). صرّح عسكريٌّ إسرائيلي كبير في حوار مع هيئة التلفزيون البريطاني، مخاطبًا الرأي العام الغربي، قائلا: "تواجه إسرائيل عدوانًا أشبه بما واجهته الولايات المتحدة في 11 سبتمبر". الدول التي تصطفّ اليوم وراء إسرائيل هي ذاتها التي تصنّف حركة حماس جماعة إرهابية. ويتم استخدام الإرهاب لوصم المقاومة الفلسطينية وعرقلة تحرّكات على مستوى دولي. وفي المقابل، يتم التعامل مع إسرائيل كدولة ذات سيادة تدافع عن نفسها. وقد اتّجهت السلطات الإسرائيلية في تحرّك فج في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 لتصنيف منظمات فلسطينية حقوقية إرهابيةً لتقويض مسار المقاومة الحقوقية السلمية. وقد انتقد المدير التنفيذي السابق لمنظمة هيومان رايتس ووتش، الأميركي كينيث روث، في تغريدة له، وصف المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، مؤكدًّا أن القانون الدولي الإنساني يجب أن يكون المعيار الحاكم لتقييم أفعال الأطراف المتحاربة وتعاملهم مع المدنيين، وليس تصنيف أحد الأطراف باعتباره جماعة إرهابية.
يبدو مدّعي عام "الجنائية الدولية" كريم خان غير متحمّس للتحقيق في المسؤولية عن الجرائم في الأراضي المحتلة
انفجار الغضب الفلسطيني وحصوله على التعاطف الواسع معه في الشارع العربي نتاج عقود طويلة من إغلاق المجتمع الدولي أبواب العدالة والإنصاف أمام الشعب الفلسطيني. لقد ظل المجتمع المدني الفلسطيني يكافح عقودا طويلة لتوظيف الأدوات القانونية الدولية سلميا لإنهاء الاحتلال، ومحاسبته، لكن هذه الجهود قوبلت بتعنّت من الدول الغربية الكبرى التي واصلت حماية إسرائيل وتلاعبها بمفاهيم القانون الدولي. استخدمت الولايات المتحدة حقّ الفيتو في مجلس الأمن أكثر من 53 مرّة منذ عام 1972 لصالح إسرائيل لعرقلة دور الأمم المتحدة وأجهزتها في التدخّل لحماية الفلسطينيين من وحشية سياسات الاحتلال، أو لوقف ضم الأراضي والتوسّع الاستيطاني. لم تتمكّن المنظمات الحقوقية الفلسطينية منذ نهاية التسعينيات من توظيف المحاكم الأوروبية ذات الاختصاص القضائي العالمي لرفع قضايا جنائية ضد المتورّطين الإسرائيليين في جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية بسبب تدخّل حكومات أوروبية عديدة لتعديل تشريعاتها الوطنية وعرقلة هذه المجهودات. وعندما أحالت السلطة الفلسطينية ملفّ فلسطين للتعامل معه في المحكمة الجنائية الدولية بعد نجاحها في الانضمام لميثاق روما، تعثرت القضية، خصوصًا مع تعيين البريطاني كريم خان مدّعيًا عامًا للمحكمة، الذي يبدو غير متحمّس للتحقيق بجدّية في المسؤولية عن الجرائم التي تُرتكب يوميًا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولم يجد الملفّ دعمًا سياسيًا دوليًا في ظل التهديدات الأميركية. وتجلى الانحياز الغربي مع توالي تجريم حركة المقاطعة ومنع الاستثمار وفرض العقوبات (BDS) في دول غربية عديدة، واعتبارها معاديةً للسامية، في فرنسا وألمانيا، وأخيرا في بريطانيا، لفرض حالةٍ من الترهيب والرقابة الذاتية على الأصوات النقدية للسياسات الإسرائيلية في هذه المجتمعات.
لم تتورّط دول غربية وحدها في عزل النضال الفلسطيني، لكن دولا عربية كبرى ساهمت في هذا عبر هرولتها، دولة تلو الأخرى، في السنوات الأخيرة إلى التطبيع مع إسرائيل. في وقت أصبح فيه التطبيع مع دولة الاحتلال كلمة السر لبقاء أنظمة الحكم العربية مستقرّة، والطريق إلى تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا. وأخيراً، بعد عقودٍ من الانقسامات السياسية التي عزّزتها سياسات دولة الاحتلال، تبدو وحدة الصف والمصالحة الفلسطينية من أهم أولويات تعزيز الموقف الدولي والإقليمي للقضية الفلسطينية، خصوصا في ضوء التداعيات السياسية المتوقّعة للتصعيد العسكري الإسرائيلي الراهن على مستقبل التحرّر الوطني الفلسطيني.