بوتين يبحث عن موطئ قدم بديل

29 ديسمبر 2024
+ الخط -

كانت خسارة إيران بسقوط بشّار الأسد فادحةً، فقد قُطِعت ذراعها التي شكّلت شريان حياة لحزب الله في لبنان، وانعكست خسارتها في محاولات الاتصال بالقادة الجدد، بعد أن تلقّت ما يبدو أنه صدّ قاطع منهم، فتغيّرت تصريحاتها، وبدأت مفاعيل فشلها تظهر بوضوح. خسرت روسيا أيضاً، رغم أنها كانت تتوقّع هذا السقوط، وحاولت الخروج بماء الوجه من خلال الحديث مع تركيا، وسارعت إلى لملمة قواتها المبعثرة في التراب السوري، وجمعها في قاعدتيها الكبيرتَين في حميميم وطرطوس استعداداً لهجرة تبدو واسعةً، تتطلّب نقل كمّية المعدات والذخائر المكدّسة، مع وجود عدد كبير من الطائرات في حميميم، القاعدة التي استوطنتها روسيا في العام 2015. حينها، بنت على عجل مدرّجاً آخر يُستخدَم لطائرات الإمداد الضخمة، عملت مورّداً للعتاد بشكل رئيس بين موسكو واللاذقية، الأمر الذي جعل الأسد يبقى في كرسيّه نحو عشرة أعوام أخرى. ولم تقتصر مساعدات روسيا على تمويل جهاز عسكري ضخم أبقى سير المعركة لصالح النظام، ولكنّها جنّدت جيشاً دبلوماسياً نجح في إعادة استيعاب النظام إقليمياً بشكل كبير. وفي ليلة السقوط، أتى استسلام روسيا أسرع من استسلام بشّار، فوقفت متفرّجةً حين كانت بقايا النظام تتراجع من مدينة إلى أخرى. وبعد أن وصلت طلائع الثوّار إلى دمشق، انكمشت روسيا في قاعدتيها.
كان أداء روسيا واضحاً في الميدان السوري، ولكن فلاديمير بوتين انتظر عشرة أيّام حتى مؤتمره الصحافي السنوي، الذي قال فيه إن روسيا "لم تخسر" (!)، وعلى طريقة الأنظمة التي تجيد هندسة خسارتها، قال إنه فاز في الحرب هناك، وإنه كان موجوداً في الأصل لمحاربة الإرهاب، والسلطة الجديدة غير إرهابية، وبالتالي فقد انتصر. بغض النظر عن طرافة هذا التبرير، فشلت روسيا في إبقاء نظام الأسد، ورغم توسّلات بشّار الأسد، الذي كان في روسيا عندما كانت معارك حلب في بدايتها، لم يحظَ بمقابلة بوتين، أو أنه التقاه وقتاً قصيراً، وعندما طلب العون من وزير الخارجية سيرغي لافروف، ردّ الأخير بأنهم مشغولون في أوكرانيا. تدلّ هذه النتيجة على الخواء العسكري لروسيا، بفشلها في الاستمرار بالدفاع عن النظام، وعدم قدرتها على الاستمرار في جبهتَين في الوقت نفسه، ففضّلت الانسحاب من أحداهما، وكان لافتاً قول بوتين إن عدد المهاجمين لم يتعدَّ 400 مقاتل، في معرض انتقاده جيش الأسد. ولكنّ هذا الانتقاد يمكن أن يوجّه له شخصياً، فقد عجز طيرانه عن مواجهة العدد القليل الذي ذكره.
ذهبت جهود جميع المشاركين الروس في هذه الحرب أدراج الرياح، وتقدّر بعض المصادر أن عددهم تجاوز مليون مشارك، ناهيك عن مليارات الروبلات الروسية التي سُفحِت لينتهي الأمر بهذا الشكل المُخزي، وتتعدّى الخسارة روسيا لتصل إلى شخص بوتين نفسه الذي كان يقف وراء الحرب في سورية، وظهر مرّات عديدة إلى جانب الأسد داعماً ومشجّعاً، وذهب بعيداً بظهوره في قاعدة حميميم مع جنود الأسد وضبّاطه، ومع طياريه في القاعدة الجوية. يمكن أن تؤثّر هذه النهاية في صورة الزعيم التي يجتهد الإعلام الرسمي الروسي في رسمها لتكون زاهيةً، لكنّها في الوقع، ستبدو باهتةً بعد هذه الهزيمة الواضحة.
من الممكن أن يؤثّر موقف بوتين، الذي اتخذه خلال العقد الماضي، على العلاقات الروسية طويلة الأمد مع سورية، رغم مجاملات دبلوماسية تابعناها بين المسؤولين الروس والسوريين الجدد، وتجد روسيا نفسها اليوم مهدّدةً بخروج نهائي من شرق المتوسّط من دون أن يفقد بوتين الأمل بالوجود عند شاطئ هذا البحر، ويعقد عزماً على التوجّه إلى ليبيا، وهي بلد ممزّق طحنتها حرب السنوات الماضية، وهذه البيئة التي يُحبّ بوتين أن يعيش فيها، وقد اكتسب خبرةً من وجوده في سورية، التي استدعاه حاكمها عندما دبّت الفوضى فيها، وحين هرب بشّار الأسد لفظته سورية، وبدأت بمحاولات العودة إلى حالة الدولة الحقيقية.