ما تركه الأسد وراءه

15 ديسمبر 2024
+ الخط -

في ليلة واحدةٍ، تهاوى النظام الملتصق بكرسيّه، فركب رئيسه طائرةً نقلته على مرحلتين إلى موسكو، مروراً بقاعدة في اللاذقية تدعى حميميم، تسيطر عليها قوات روسية. لم يتأخّر الوقت كثيراً حتى أظهرت وسائل الإعلام أماكن بشار الأسد الخاصة، وصالات استراحته، ومنازل أفراد عائلته، وصورهم في لحظاتهم الخاصة. وظهرت قوائم طعامه وخزائن ملابسه، ومحتويات مطابخه إلى العلن. هرب الخدم والحشم والحرس والحواجز، وتركوا كل شيء شواهد صادقة على ما كان يدور في هذه الأمكنة. أشياء تُظهر شخصية ساكنيها وميولهم، وأذواقهم، كلها كانت واضحة من خلال أسلوب معمار البيوت والقصور والمكاتب، وطريقة ترتيب الأثاث في الغرف والممرّات الطويلة، وحتى في شكل الحدائق وأنواع الأشجار. ظهر من الديكتاتور جانبٌ مخفيٌّ مع حجم المكتشفات الهائل الذي يعبّر بصراحة عن شخصية هذا الرجل، غير التي تعامل بها مع الشعب السوري في سنوات الثورة الطويلة.

كان يبلغ الرابعة والثلاثين عندما عدّل أصحابُ والده من "ممثلي الشعب" الدستور، ليصبح الوريثُ قادراً على اعتلاء كرسي الديكتاتور. وتظهر تلك اللحظة خللاً عضوياً يكتنف هذه الشخصية، التي لم تجد غضاضة في تزوير الأوراق الرسمية والعبث بالدستور، حتى يصبح رئيساً، من دون إحكام الوعي لدى عصبة المسؤولين أولئك بخطورة هذه الحركة الاحتيالية المنافية لكل عرف سياسي محترم، نُفّذت هذه المؤامرة المبكّرة التي كرّسته رئيساً برعاية أجهزة الأمن المسلّطة على رقاب الجميع، وهو يدرك ذلك جيداً، فقد ترأس بنفسه تلك الأجهزة وأشرف عليها من قرب، ولا بد أنه أضاف لمساته إلى أسلوب عملها، وقد ظهرت تلك اللمسات في ما اكتشف في سجن صيدنايا.

جلس بشّار بشخصية المراهق الفجّة في القصر الجمهوري، وقمع أول تحرك سياسي في ربيع دمشق، وأعاد القبضة الحديدية التي فرضها والده حتى لحظة الخامس عشر من مارس/ آذار في عام 2011. حين أعلن بشّار صورته الدموية على مدى 13عاماً الماضية، مارست فيها جماعته القتل العشوائي والتهجير والقمع، وأدار ظهره لنصائح وتوصيات عديدة، مصرّاً على عدم التخلي عن كرسيه، ورغم معاناة الجميع، حتى من حاضنته داخل سورية، من شحّ الموارد والحالة المعيشية الصعبة. تجاهل كل شيء وبقي في موضعه، واحتمى بقوى خارجية أباح لها سورية على طولها وعرضها في سبيل أن يبقى... ظهرت خلال تلك السنوات شخصية الديكتاتور الحقيقية، الذي أغلق أبواب الحلول كلها، وانكفأ إلى الداخل، بعد أن قوطع وأصبح مطلوباً للعدالة الدولية، حين ظهرت جرائمه التي تفاخر ببعضها، وارتقى كثير منها إلى التصفية الجماعية والتطهير بأسلحة تحرّمها الإنسانية.

مما أظهرته الكاميرات من قصوره ومكاتبه وبيوته، تبيّن أنه شخصٌ نهم يريد ابتلاع كل ما يجده في طريقه، فالصالات واسعة ورحيبة من دون لمسات من الذوق أو الفن، والأشياء مكدّسة بكثرة، وبعضها لا فائدة منه، وفي غير أمكنته الصحيحة. أظهرت الأماكن التي عاش فيها قلة الذوق الشخصية والافتقار إلى الإحساس بالجمال، أو أي عناوين تثير الإبهار، فقد خلت الجدران من رسومات فنية، ولم نشهد سقوفاً عالية أو مزخرفة في قصوره ومنازل أسرته. في المقابل، رأينا طوابق سفلية، وسراديب طويلة تحت الأرض، في هندسة تعكس فعلاً شخصية رجال المافيا المستعدّين دائماً والمرتابين طوال الوقت. ولتكتمل صورة الديكتاتور البائس، أفصحت تقارير عن سلوكه في لحظاته الأخيرة، فقد أخفى نيته بالهروب عن الجميع، حتى عن شقيقه وشريكه في الحكم، وموّه خطته على مدير مكتبه الذي أخبره بأنه عائد إلى المنزل. ومارس مراوغة من نوع آخر، عندما اتصل بمستشارته بثينة شعبان، وطلبها إلى منزله كي تكتب له خطاباً سيلقيه، ولكنها جاءت ولم تجد أحداً، فقد ذهب على عجل وترك خلفه إرث 55 سنة وجيشاً محطّماً، ومؤسّسات متهاوية، وطائفة حائرة، وألبومات صور سيتندّر السوريون عليها قرناً.