بوتين والكواكب الأربعة عشر
تجمّدت الجبهات العسكرية في أوكرانيا بعد سلسلة ناجحة من الهجمات التي قام بها الجيش الأوكراني، استعاد فيها كثيراً من أراضيه المحتلة في الشرق والجنوب. تمترس الروس وراء الحليف الطبيعي المتمثل بفصل الشتاء، مقابل تعزيز الأوكرانيين المواقع التي استعادوها، ولكن القصف الجوي الروسي المستمرّ لأهداف مدنية وبنىً تحتية لم يتوقف، ليلاً ونهاراً، وشكَّل جزءاً من محادثات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في واشنطن، حيث طلب من أميركا مزيداً من المساعدات في مجال الدفاع الجوي، كذلك طلب من المملكة المتحدة الطلب نفسه، وهذا يعكس حاجة أوكرانية ماسّة لوقف الهجمات الجوية المؤثرة. توقف الزحف الروسي في الميدان لا يعني تخلي القوات الروسية بشكل كامل عن المعركة، واستمرارها في التصعيد الجوي لا يعني أن أهداف بوتين العسكرية ستقتصر على هذه الناحية، فهو يعرف أن صواريخ باتريوت ستوقف نشاطه الجوي إلى حد بعيد، كذلك إن "الطموح" البوتيني يتجاوز بكثير تحطيم البنية التحتية الأوكرانية، وهو، رغم تراجعه المذلّ في الشرق، ما زال يتطلّع إلى وضع يده بشكل كامل على أوكرانيا، ووقفته الحالية لمزيد من التشاور والتخطيط من أجل مرحلة مقبلة يبدو أنها بدأت بزيارة قام بها لبيلاروسيا التي تعتبر مجرّد دولة عميلة تدور بشكل كامل في الفلك الروسي، وقد تكون بيلاروسيا جزءاً من الخطة الحربية المقبلة.
احتفظت روسيا بعلاقاتها مع جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، وكانت حريصة، رغم التخلي الكامل عن الإرث الشيوعي، على أن تبقي كواكبها الأربعة عشر على مقربةٍ منها، وأن تسير هذه في ركابها إن لم تَدُر بشكل كامل في فلكها. لكن الثلاثين عاماً الماضية شهدت تحوّلات حادّة اختلفت فيها العلاقات بين روسيا وجمهورياتها السابقة، وراوحت بين التماهي الكامل، كحالة بيلاروسيا، وحالة المواجهة العسكرية المفتوحة، ولا يقتصر الأمر على الدفء والبرود، فهناك حالات خاصة وفريدة تكاد تميّز كل جمهورية على حدة. كان الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، جادّاً في فصل عرى التقارب بين هذه الجمهوريات وروسيا، وقد نجح في حالاتٍ وفشل في أخرى، وخلالها كان بوتين، وهو الرئيس الأبرز لروسيا في فترة ما بعد الشيوعية، مستميتاً لإبقاء العلاقات بوضعية التابع والمتبوع، بغضّ النظر عن حالة كل جمهورية ومقدرتها وحجمها ووضعها الجغرافي.
ضمّ جوزيف ستالين بالقوة العسكرية جمهوريات البلطيق الثلاث، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وما زالت شعوب هذه الدول تعتبر روسيا دولة محتلة، وكانت هذه الجمهوريات من أولى الدول التي انسحبت من اتحاد الجمهوريات السوفييتية، وتطوّر موقفها إلى حالة من العداء بعد دخولها في حلف الناتو، رغم أن هذه الجمهوريات تستورد الغاز من روسيا. أما القوقاز، فتعتبرها روسيا جزءاً من الفضاء الاستراتيجي لها. وبذل بوتين، ومن كان قبله، جهوداً، منها عسكرية، لإبقاء المنطقة تحت السيطرة الكاملة. فقد خاضت روسيا حربين في الشيشان، وتدخّلت أكثر من مرة بين أرمينيا وأذربيجان لوقف الصراع على جيب ناغورني كاراباخ، وواجهت عسكرياً جورجيا عندما حاولت استعادة أوسيتيا.
كانت روسيا أكثر حزماً وعنفاً في منطقة القوقاز، بينما حافظت على بعض الهدوء في مواجهتها البلطيقية، فيما تبدو علاقاتها مع الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى أكثر قوة، فهذه المجموعة ما زالت تعتمد بشدة على التمويل والقوة الروسيين في توطيد حكوماتها، وتتمتّع روسيا فيها بنفوذ قوي يكاد أن يماثل نفوذها في أيام الشيوعية، ولكن قوة العلاقة تعتمد بشدة على الكرم الروسي الاقتصادي، وتبقى الجبهة الغربية، حيث بيلاروسيا وأوكرانيا ومولدوفا، حيث تتباين علاقات بوتين مع تلك الجمهوريات بشدة، فمن الحرب المعلنة مع أوكرانيا إلى حالة التوتر والشد والجذب مع مولدوفا، وصولاً إلى محاولة بوتين جرّ الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، إلى الدخول علانية مع الغزو الروسي الجديد لأوكرانيا.