بعيداً عن عالمٍ صاخب
أحاول، بين فترة وأخرى، أن أبتعد عن عالم وسائل التواصل الاجتماعي، أنا المنغمسة فيه منذ أزيد من عشرة أعوام بحبٍّ وفرحٍ كبيريْن. أما ابتعادي الاضطراري فيحدث أحيانا أياما أو أسابيع، وفقا لمتطلبات الظرف الاضطراري الذي أمرّ فيه. ولكنْ لابتعادي الاختياري أسباب أحاول أن أخضع لها لأرصد من بعيد على الأقل مدى التأثير الذي تركته في هذا العالم الذي يحلو لكثيرين أن يسمّوه العالم الافتراضي، مقارنة له بالعالم الواقعي الذي نعيشه على هذا الأرض.
كانت بداياتي مع عالم التواصل الاجتماعي في منصّة فيسبوك، بعيد انطلاقتها بقليل، لكنني سرعان ما تركتها تقريبا لصالح منصّة تويتر، هروبا من التفاصيل المزعجة الكثيرة التي تحفل بها "فيسبوك"، بالإضافة إلى فكرة الصداقة المتخيّلة التي تجعلك تلك المنصّة تصدقها من دون أن تشعر أحيانا، فتُفرض عليك وفقا لها التزاماتٌ لا تكاد تستطيع الوفاء بها! لم تنافس منصّة تويتر لديّ أي منصّة أخرى، فهي السهل الممتنع الذي يتيح لي أن أكون على تماسّ مع الأحداث والأخبار من العالم وإليه فورا وبإيجاز بليغ. الإيجاز تحديدا هو ما جعلني أواظب على استخدام هذه المنصّة واستثمارها لصالح كل ما أراه مناسبا في الكتابة والحياة.
الغريب أنني لا أتذكّر يومياتي قبل هذه المنصّة التي جعلتني على تواصلٍ دائم ومباشر مع الآخرين، خصوصا القرّاء، فقبل تويتر، لم أكن أعرف بالضبط آراء القرّاء في ما أكتبه وأنشره. كانت الآراء والتعليقات غائمة، ولا تبدو لي دقيقة في واقع صحافي يموج بالمبالغات والمجاملات. أما بعد "تويتر" فقد كنت أقرأ التعليقات والآراء بعد النشر، ممن أعرف وممن لا أعرف من المتابعين والقرّاء، ما جعلني أستطيع أن أتوقع ردود الأفعال وأرصدها بعد كل مقالة أكتبها وحتى قبل النشر.
ولكن تويتر، بالنسبة لي، لم يكن مجرّد همزة وصل بين كاتب وقارئ، على أهمية هذه الوظيفة الجديدة، فقد تجاوزها إلى أن يكون حياة حقيقية فائضة بالمعاني والكلمات والأخبار والأحداث والشعر والصور وكل ما أريده تقريبا من عالم الكتابة اليومية. وكلما غبت عنه اختياريا أو اضطراريا، شعرت بغياب هذا كله، وبقي الفراغ في الزمان والمكان لا يمكن لشيء آخر أن يملأه، فلكل من وما نحب في هذه الحياة حيزه الخاص الذي لا يمكن ملؤه بالبديل. بل تبدو فكرة "البديل" معه غبية ولا منطقية. لا بديل، إذاً، لغياب فكرة التطابق الدقيق بين البشر والأشياء والمعاني. وبالتالي، لا يمكن إضاعة الوقت بحثا عن بديلٍ لأي إنسان أو علاقة أو أي شيء آخر!
حاليا، أغيب، اختياريا، عن كل هذا الصخب الجميل، كعادتي بين فترة وأخرى لأسباب مختلفة. بدأ الأمر قبل أسبوع تقريبا بموقف نفسي فرضه عليّ ظرف صعبٌ عشته، ولم أستطع التعامل معه لحظتها. ولأنني أعرف أنني لا أستطيع التعبير عن تلك المواقف الصعبة في حياتي إلا بما يمكن أن يكون ورطةً حقيقية في الكتابة، قرّرت الابتعاد عن الآخرين، كعادتي في مثل تلك الظروف والمواقف، وكانت وسيلتي، في تحقيق الهدف بسرعة، مقاطعة كل وسائل التواصل الاجتماعي التي توسّع دائرة لقاءاتي مع الناس يوميا. اختلف الأمر، هذه المرّة تحديدا، عن المرّات السابقة. لم أشعر بذلك الحنين المعتاد، ولم تعد تغويني تعليقات الآخرين على ما أكتبه في "تويتر". وأصبح المشهد كله بالنسبة لي يشبه مشهدا عابرا في فيلم سينمائي رأيته عشرات المرّات، وأعرف تفاصيله، ولكنني مستمرّة في المشاهدة.
وككل التجارب التي تبقى ناقصة، حتى نبتعد عنها طويلا في غياهب الزمان، بانتظار أن تكتمل لأرصد ما حدث لي بعدها.