بعد مائة يوم على تدابير قيس سعيّد
أكثر من مائة يوم مرّت على إعلان الرئيس التونسي، قيس سعيّد، تجميد عمل البرلمان واختصاصات نوابه، ورفع الحصانة عنهم، وحرمانهم من منحهم التي تؤمّن لجلّهم العيش الكريم، وتعليق العمل في أغلب أبواب الدستور التونسي، وحيازته السلطتين، التشريعية والتنفيذية، وإلغاء وظائفهما الرقابية، وتولي الحكم كليا، وليس جزئيا كما كان الأمر بعد الانتخابات الرئاسية سنة 2019، من دون أن تلوح في الأفق سمات المشروع السياسي الجديد للرئيس، إذا ما تم استثناء الطهورية واليد النظيفة، ويوتوبيا البناء القاعدي- المجالسي، المستنسخ من المركّب القديم الفوضوي- الماركسي، المبشّر به من جمهور المريدين- الشرّاح المنتشرين خارج العناوين الحزبية والصيغ التنظيمية الوسيطة النقابية والمدنية التي أفرزها التطور السياسي المجتمعي على امتداد القرن ونصف القرن من نضال النخبة التونسية وتنظيرات أعلامها ورموزها المحدثين المجدّدين وتراكم فعلهم التاريخي. والمفارقة أن هؤلاء الشرّاح الذين شرعوا في نصب خيامهم وإقامة حفلاتهم التفسيرية في ما يشبه الحملة الانتخابية المفتوحة في الزمان والمكان لا يمتلكون متنا نظريا أو نصّا مرجعيا أو مانيفستو مؤسّسا منشورا أو غير منشور لشرحه، وتفصيل القول في ثوابته ومتشابهاته وتفكيك براديغماته وترجمتها برامج سياسية ومشاريع تنموية وبنيات أساسية وإصلاحات هيكلية من أجل النهوض والتقدّم بمجتمع أعطى كل تأييده للرئيس من دون حساب أو مواربة، ورأى فيه يوم 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2021 المنقذ من أشباح الفساد وإفساد التجربة الديمقراطية الفتية والفقر والتطرّف والإرهاب وفوضى السياسة وانهيار الأخلاق العامة وتهاوي القيم التربوية وتفكّك الدولة والغرق في المديونية وافتقاد السيادة الوطنية وحلول الهيمنة الأجنبية.
الاستثناء الوحيد هو الأمر الرئاسي عدد 117 الصادر في 22 سبتمبر/ أيلول المتكون من 23 فصلا والذي وضع المراسيم والأوامر الرئاسية في المرتبة نفسها أو هي أعلى رتبة أحيانا من الفصول الدستورية من دون تحديد سقف زمني لتدابير الرئيس التي باتت تمثّل نظاما مؤقتا للسلطات العمومية، تشكّلت على أرضيته الحكومة التونسية، برئاسة نجلاء بودن، واستمدت الثقة من الرئيس نفسه، وليس من مجلس نواب الشعب، كما يقتضي الدستور التونسي لسنة 2014. وعُدّ الإعلان عن تشكيل الحكومة إنجازا في حدّ ذاته انتظره التونسيون أكثر من شهرين، لكن الولادة العسيرة لم تكن طبيعية، إذ غابت عنها الروح السياسية والقدرات الاستشرافية التي تميز القادة الحقيقيين للدول والمجتمعات، وحلّت محلّها الولاءات الشخصية والانتماءات الإدارية ذات الصبغة التنفيذية. وهذا ما يفسّر حالة بُكم أغلب وزرائها وعزوفهم عن الكلام الذي تنتظره وسائل الإعلام، ويرغب في سماعه الرأي العام، لمعرفة مناهجهم في إدارة وزاراتهم وحلولهم ورؤاهم التي يقترحونها لتجاوز تونس أزمتها الهيكلية التي تعيشها في شتّى القطاعات التي يديرونها، ناهيك أن توليهم مناصبهم هو نتاج المصادفة وحدها، فجاء في شكل ريع سياسي لم يبذلوا من أجله التضحيات، ولا هم خاضوا في سبيله النضالات أو تحمّلوا وزر الانتماءات التي ترتوي بالعقائد والأيديولوجيات، وتستحيل برامج وسياسات.
لم يعد هناك خطر داهم أو جاثم يهدّد البلاد إلا الانفراد بالسلطة والحكم
لم تفرز تطبيقات الأمر الرئاسي عدد117 تغييرات جذرية في طريقة اشتغال مجلس الوزراء، وفي مقاربة الملفات التي يتم التداول في شأنها، مقارنةً بالمجالس المنعقدة سابقا بإشراف رؤساء الحكومات وفق الضوابط التي حدّدها الدستور التونسي المغلقة جلّ أبوابه، إلا إذا اعتُبر ترؤس الرئيس قيس سعيّد تلك المجالس، بصفة دورية يوم الخميس من كل أسبوع محاكاة منه باي تونس زمن الاستعمار ثم من بعده الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، بدلا من رئيسة الحكومة، واستهلاله الجلسات بخطبٍ رنّانة مشحونة بالرسائل السياسية الموجهة إلى خصوم الرئيس ومعارضيه، وبسجلّ اصطلاحي اتهامي لم تألفه المعجمية السياسية المتداولة، إلا إذا اعتبر ذلك الأمر، في حدّ ذاته، تغييرا هاما وإنجازا نوعيا.
ويكفي القيام بجرد سريع لجداول أعمال مجالس الوزراء الأربعة التي ترأسها الرئيس قيس سعيّد، مباشرة بعد تشكيل حكومة بودن، بين 14 أكتوبر/ تشرين الأول و4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، للوقوف على كلاسيكية أعمال تلك المجالس التي احتل الأولوية في مناقشاتها مرسوم قانون المالية التعديلي، ومشروع أمر رئاسي حول إصدار القرض الرقاعي ومجموعة من اتفاقيات القروض، على الرغم من إدانة سعيّد، في أكثر من مناسبة، الإمعان في المديونية والتشكيك في جدواها ونزاهة التصرّف في الأموال المتأتية منها. وكذلك تمت مناقشة أمر إلحاق وزارة الشؤون المحلية بوزارة الداخلية، وأمر إصدار جواز التلقيح ضد فيروس كرونا، وتجديد رخص استغلال حقول بترولية، وتنقيح أمرٍ يتعلق باستغلال محلات بيع التبغ، والتداول في مشروع مرسوم يتعلق بالصلح الجزائي، وآخر يعنى بعائلات شهداء الثورة وجرحاها. ويعكس وضع تلك الأوامر والمشاريع الرئاسية، على أهميتها، على رأس جداول أعمال مجالس الوزراء غياب الرؤى السياسية، وتولي الإدارة التونسية رسم السياسات العمومية. ومع ذلك، مكّنت الرئيس سعيد، وهو الذي لا يمتلك أي تجربة سابقة قبل توليه الرئاسة، من معرفة الدولة وفنون إدارتها وإكراهات تسييرها وصعوبات الاستجابة لمطالب مختلف شرائحها الاجتماعية وتمكينهم من العيش الكريم. وقد ظهر هذا جليا في عجز الرئيس وحكومته عن إيجاد حل لمعضلة النفايات في ولاية صفاقس، وتعبئة موارد الدولة المالية، وكبح الارتفاع الصاروخي للأسعار، ونهم رجال المال والأعمال، على الرغم من التهديد والوعيد، والزيارات المفاجئة إلى غرف التبريد ومصنع الحديد، وتبشير التونسيين باسترجاع 13.5 مليار دينار من أموالهم المنهوبة، ليستعيض بها عن الاقتراض من صندوق النقد الدولي، بعد التعبير عن رفض التصنيفات المالية الدولية المعتمدة من ذلك الصندوق، وإرسال رسالة موقعة من رئيسة الحكومة ومحافظ البنك المركزي تطلب من الصندوق فتح المفاوضات والقبول بشروطه التقليدية المجحفة.
الحكم وإدارة حياة الناس وتأمين وجود الشعب وحماية الدولة من الانهيار ليس نزوة أو مجرّد رغبة ذاتية
ثلاثة أشهر أو يزيد أظهرت الأدلة واضحة جليّة أمام الرئيس سعيّد أن الحكم وإدارة حياة الناس وتأمين وجود الشعب وحماية الدولة من الانهيار ليس نزوة أو مجرّد رغبة ذاتية، وإنما قدرة وكفاءة وخبرة وتجربة عميقة ومسؤولية عالية، ولن يتحقّق ذلك بمجرّد أن يعلن الرئيس أنه المؤتمن الوحيد على الإرادة الشعبية أو هو روح الشعب وضميره الحي كما هو مستبطن لديه، فتلك الروح تتوزّع فسيفسائيا على مختلف الشرائح الاجتماعية والنخب الفكرية والسياسية والمدنية والإعلامية والفنية، ما يقتضي الاعتراف بالتعدّد والاختلاف وإدارته عن طريق الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة وتأمين العيش المشترك، إذ لا يمكن للاستثناء أن يتحوّل إلى دوام، ولا يُقبل بمنطق التاريخ وإرادة الشعوب أن يُستعاض عن الديمقراطية باحتكار السلطة الذي عادة ما يتحوّل إلى انحراف، ثم إلى استبداد مكتمل الأركان.
لقد استوفت التدابير الاستثنائية المدّة الكافية، ولم يعد هناك خطر داهم أو جاثم يهدّد البلاد إلا الانفراد بالسلطة والحكم. ولكي يقطع الرئيس مع هذا الخطر الحقيقي ويحمي الديمقراطية التونسية من الانهيار، الأمر الذي سيكلّف تونس، إن تمّ ذلك، ضريبة عالية، ويضعها في وضع بالغ الخطورة على السلم الأهلي والروابط الدولية، فإن النخب الوطنية مطالبة اليوم بمساعدة الرئيس على التوجّه إلى انتخابات تشريعية ورئاسية سابقة لأوانها، لتحويل المشروعية الشعبية إلى شرعية قانونية، بعد تنقية المناخ الانتخابي من التلوّث والشوائب التي علقت به قانونيا وتنظيميا وماديا واتصاليا، إذ لم تهتد الشعوب بعد إلى بديلٍ عن التمثيليات البرلمانية مصدرا للإرادة الشعبية، فالرئيس قيس سعيّد مدعو إلى أن يلعب دور الأب المجمّع ولا يمارس سلطة بطرياركية، وليس دور السياسي المنفّر الذي كلّما تكلّم أضاف إلى رصيده معادين جددا، وبدلا من أن يوسّع جبهة الأصدقاء يزيد من حجم فسطاط الأعداء.