بريكست وإمبراطورية تشرشل
انتهت الحرب العالمية الثانية وأوروبا قارّة شبه مدمرة، ينبعث من بقايا حرائقها الدخان، مع حيرة سياسية تسود أحزابها التقليدية والجديدة. وفي بريطانيا، خسر حزب المحافظين معركته الانتخابية، وألقي ونستون تشرشل خارج "10 داونينغ ستريت"، فاستفاد من كونه شخصية محترمة ذات تاريخ عريق ودور رئيسي في هزيمة النازيين، وتجوّل في أنحاء القارّة المدمَّرة يبشّر بوحدة الأوروبيين، على أن يكون التقارب الفرنسي الألماني نواة لها. وفي خطاب مفصلي ألقاه ببلاغة في جامعة زيورخ، أشاد تشرشل بنبل القارّة العجوز، وعدَّد مناقبها ونوَّه بريادتها، ثم دعا إلى نوع من الولايات المتحدة الأوروبية، فكان تشرشل من أوائل الأصوات المنادية باتحاد أوروبي، واستغل مكانته المرموقة وتحرّره من تبعات المنصب الحكومي، وحثّ أوروبا على أن تجد لنفسها طريقةً تتجمع بها على أن يكون ذلك التجمع بالتحديد حول ألمانيا وفرنسا. كان ذلك النداء نوعاً من النصيحة يقدّمها تشرشل الذي أخرج نفسه وبريطانيا خارج القارّة، فحين نادى بالاتحاد كان يعتبر بريطانيا كياناً آخر لا يمتّ إلى أوروبا بصلة، وليس لديه مشكلاتها.
قدّم تشرشل المشروع من موقع متعالٍ، فقد كان ينظر إلى بريطانيا داعمةً لهذا المشروع، وليست مشاركة فيه، فيضعها بمستوى الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. كان السير تشرشل ما زال يعيش أحلام الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وأوروبا الموحدة يمكن أن تخفف عن بريطانيا بدل أن تسبب لها صداعاً بين فترة وأخرى. لكنّ البريطانيين اكتشفوا، في بداية الستينيات، أن جزرهم يمكن أن تكون ذات أداء اقتصادي أقوى، لو تطلعوا إلى جيرانهم الأوروبيين. وكان حينها لشارل ديغول رأي آخر، فقد رفض كل طلبات الانضمام البريطانية إلى أوروبا التي قدّمت طوال الستينيات، ولم يُقبل الطلب إلا بعد وفاة ديغول. استثمرت بريطانيا في أوروبا بقوةٍ فاقت استثماراتها في دول الكومنولث، حتى وقّع رئيس الوزراء المحافظ، إدوارد هيث، وثيقة الانضمام الكامل عام 1973، وجاءت نتيجة الاستفتاء على البقاء في أوروبا الذي جرى عام 1975 بموافقةٍ جارفة، فتركت السياسة البريطانية مكانها الإمبراطوري الحالم، حين طحنها الاقتصاد المأزوم في بداية السبعينيات، حيث عاشتها محبطةً، تعاني من إضرابات عمال مناجم الفحم التي أودت بإدوارد هيث وحزب المحافظين.
لم تتخلّ بريطانيا كلياً عن حلمها العالمي. وعلى الرغم من ارتباطها بأوروبا وتمتعها بعضوية كاملة، إلا أنها حافظت على عملتها الوطنية، وعلاقاتٍ مميزة مع أميركا تختلف قليلاً عن علاقة أوروبا بها. يسكن بريطانيا هاجس عالمي يجعل من سياستها تقفز فوق أوروبا، وأمنها يرتبط بما هو أوسع، ولعل الهيمنة الألمانية الفرنسية على الاتحاد أشعرتها بعجز ونفور رجعا بها إلى حلمها القديم، فأعادت تقييم علاقاتها بنيوزيلندا وكندا وتطويرها مع أميركا، وهذا قاد في عام 2016 إلى التصويت بـ"نعم" على خروجها من الاتحاد. ثم تخبّطت مرة أخرى، وهي تحاول أن تتلمس طريقاً منظماً لهذا الخروج الذي فقدت على إثره تيريزا ماي منصبها في رئاسة الوزراء، ليخلفها بوريس جونسون، العراب الحقيقي للانفصال ووريث الحلم التشرشلي.
حافظ النظام السياسي في إنكلترا على تماسكه بعد الخروج، وبدا في الحقيقة أكثر تماسكاً عندما أعيد انتخاب جونسون مع بحبوحة كافية في مقاعد مجلس العموم، تشعره براحة سياسة أكبر، فحقق ما عجزت عنه ماي التي خرجت من رئاسة الحزب والحكومة، متعثّرة بدموعها، وتركت خلفها استعصاءً برلمانياً وسياسياً عميقاً، فقدّم جونسون للبرلمان اتفاقيةً تخرجه من استعصائه، وافق عليها صقور المحافظين وحمائمهم، فضلاً عن زعيم حزب العمال، كير ستارمر. أعاد جونسون بريطانيا إلى أحلام تشرشل الذي كان ينظر إلى أوروبا بوصفها جارةً مريحةً يقدّم لها النصيحة، لكنه من موقعه الآن خارج أوروبا عليه أن ينظر بعين جديدة إلى أميركا، بعد أن خلعت دونالد ترامب، وجاءت بشخصٍ مختلف.