بايدن واستحقاق المائة يوم
لم تمضِ بعد، المائة يوم الأولى لجلوس الرئيس الأميركي، جو بايدن، في البيت الأبيض، وهي المدّة التي ينتظر المراقبون السياسيون عادة أن يمضيها أيّ رئيس أميركي في منصبه، قبل أن تنطلق التقييمات حوله. وفي كلّ حال، مضى قسم كبير منها، وقد أظهر بايدن، خلال هذه الفترة، ما يمكن البناء عليه لمعرفة مخطّطاته على المدى الأبعد. فمع شروق شمس يومه الخامس والسبعين، وهي "ثلاثة أرباع" المدة المعتمدة، تطبق الولايات المتحدة عقوباتٍ على روسيا، عبر حظر بضع شركاتٍ تعمل في مجال الشبكات، ومعاقبة مجموعة أخرى من الشخصيات الروسية على علاقةٍ مباشرةٍ بعمليات القرصنة السيبرانية، وإبعاد عشرة أشخاص يعتبر بايدن أنّهم ضباط أمن روس يعملون دبلوماسيين في الولايات المتحدة. حرص بايدن على القول إنّ هذه العقوبات وفاء لعهود انتخابية كان قد قطعها على نفسه في أثناء حملته الرئاسية. وقد أبلغ الرئيس الروسي بها قبل أيام، وقال له أيضاً إنّ أميركا كانت قادرةً على اتخاذ إجراءاتٍ أشدّ، لكنّها اختارت أن تكون متناسبة، راغبةً في بناء علاقات مستقرة. لا تبدو هذه الجملة متناقضة، فهناك ضمن مناطق الاشتباك ما هو متوافر لشيء من التفاهم والتعاون، على الرغم من مثل هذه العقوبات.
اختار بايدن أن يوقع عقوباتٍ على روسيا لتدخلها الإلكتروني، ومحاولتها تشويش العملية الديمقراطية الأميركية، كما قال، وأوقع عقوبةً لها صلة بقضية أوكرانيا، فعاقب شركة مقاولاتٍ بنت جسراً يصل القرم بروسيا، ومجموعة سياسيين روس قياديين في القرم. لكنّه فضل استخدام قنوات دبلوماسية في ما يخص الأخبار والتقارير الأمنية التي تفيد بأنّ روسيا قد شجعت حركة طالبان على مهاجمة قوات أميركا وحلفائها في أفغانستان. تبدو عقوبات بايدن الانتقائية حريصةً على عدم إثارة متاعب عسكرية مع روسيا، إذ يمكن أن تحلّ هذه المسائل عبر بروتوكول مختلف، لا يستثار فيه فلاديمير بوتين أكثر من اللازم. وتبقي فيه القوات الأميركية على هدوئها الحذر الذي تتخذه منذ زمن طويل، ويبدو شكل هذه العقوبات مرضياً للناخب الأميركي الذي يؤكّد له بايدن أنّ وجهه الرئاسي لم يختلف عن وجهه الانتخابي. لا جديد في الأمر، وقد أصبحت عقوبات حظر شركات روسية، أو إبعاد دبلوماسيين، تقليداً رئاسياً أميركياً. وسبق لباراك أوباما القيام بالخطوة نفسها، على امتداد فترتيه الرئاسيتين. ونفذ دونالد ترامب إجراءاتٍ مماثلة، على الرغم مما أشيع عن دفء الأجواء بينه وبين بوتين. وها هو بايدن يفعل الشيء نفسه قبل أن يكمل يومه المائة، مع رغبته في الإبقاء على علاقات مستقرّة، أكدها للرئيس بوتين بنفسه. والعلاقات المستقرّة في الواقع هي الثابت الوحيد بين الدولتين، وقد ردّ بوتين بعقوبات مماثلة، من دون أن يتجاوز المستوى الذي يُبقي الأمور تحت السيطرة.
على الرغم من أنّ وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، هدّد أميركا بعقوباتٍ مؤلمة، وعلى الرغم من كلّ الصخب الذي يثار عن توترٍ متبادلٍ على امتداد الملاعب السياسية المتوافرة للبلدين على ظهر الكرة الأرضية، فالانضباط غدا عادة موروثة بينهما، منذ الحرب الباردة. وربما ظهر أحد أشكاله في السنوات الأخيرة في سورية، عندما تحرّكت الدوريات الروسية والأميركية على الطريق نفسه ذهاباً وإياباً. هذا لا يعني أنّ البلدين على توافق، أو أنّ هناك أمراً ما يجري تحت الطاولة، لكنّ المشهد العام هو علاقة بين دولتين واسعتي النفوذ، يسلّم كلّ طرفٍ للآخر بمناطق، ويحرص على ألّا يخنقه، فيضطره إلى أن يظهر مخالبه الحادّة. وفي الوقت نفسه، لا بدّ من الحفاظ على العداوة التقليدية التي تشبه علاقة القط والفأر، مع بقاء فسحةٍ يمكن بها أن يتقارب الطرفان بمودةٍ في مكان ما. والأهم من ذلك بالنسبة إلى بايدن أن يصدُر به تقييم إيجابي، بعد أن يكون قد أمضى يومه المائة في البيت الأبيض.