بايدن إلى السعودية.. صفيح ساخن
وجّه ملك السعودية، سلمان بن عبد العزيز، دعوة إلى الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، لزيارة المملكة يومي 15 و16 من الشهر المقبل (يوليو/ تموز). جاءت الدعوة بعد تصاعد الخلافات السياسية بين الرياض وواشنطن، وتبادل الانتقادات القاسية والمباشرة، وقد مهدت للدعوة زياراتٌ ولقاءاتٌ مطوّلة بين مسؤولي الجانبين، ما يعني وجود فرصة لرأب الصدع وتفعيل العلاقات التاريخية بالتوافق على مخارج للملفات العالقة تلبّي مصلحة الدولتين.
ارتبطت الخلافات السياسية بتباين وجهتي نظر في المنطلقات والتعارض في التطلعات. فالإدارة الديمقراطية الأميركية تنظر إلى الإقليم ودوله وقضاياها ومشكلاتها من منطلق خدمة استراتيجية كونية تعتمدها، تقضي بتقليص دورها وتخفيف التزاماتها فيه، وهذا يتعارض مع منطلق المملكة التي ترى ضرورة التزام الإدارات الأميركية المتعاقبة بفحوى اتفاق روزفلت – عبد العزيز على ظهر المدمّرة كوينسي يوم 14 فبراير/ شباط 1945، وهذا يعني حماية المملكة من كل التهديدات، بما في ذلك خوض حرب دفاعاً عنها. وتضع الإدارة الديمقراطية الحريات وحقوق الإنسان في مقدّمة أولوياتها، وتدعو الدول الحليفة إلى التزامها. وهذا يتعارض مع النزعة السلطوية التي تحكم سياسات المملكة الداخلية، ما أفرز جفوة بينهما، واستدعى تبنّي مواقف متباينة من ملفات ومشكلات إقليمية ودولية، ما قاد إلى تعميق الخلافات وتوسيع الفجوة. فقد عبّرت السلطة السعودية عن ضيقها من مواقف الإدارة الديمقراطية الرافضة لانفتاح الرياض على الصين وروسيا وتبادل الزيارات والاتصالات، وعقد صفقات أسلحة معهما، وبيع نفط للصين بالعملة الصينية، والتعبير عن تفضيلها إدارة جمهورية في البيت الأبيض، بالتمسّك برفضها الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني، وبتمويل استثمارات صهر الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، جاريد كوشنير، بملياري دولار، وتكريس جزء من نشاطها الإعلامي لمتابعة مواقف الإدارة الديمقراطية للكشف عن ضعفها وتراجعها في المعادلات الدولية، في سعي منها للتأثير بانتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي، ودعم عودة الجمهوريين إلى السيطرة فيه، والتمهيد لعودتهم إلى الإدارة، وعودة ترامب (أو الترامبية) إلى البيت الأبيض.
وزاد الطين بلة، اعتماد السلطة السعودية سياسة تضييق ضد المعارضين السعوديين السلميين في الداخل والخارج، باعتقالات مديدة وإخفاء قسري، عبد الله حامد ورائف بدوي ولجين الهذلول وسلمان العودة وعوض القرني وعلي العمري وفهد بن عبد العزيز وآخرين، والخطف والقتل، كما حصل للصحافي جمال خاشقجي يوم 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2018 في القنصلية السعودية في إسطنبول، واحتجاز أمراء من العائلة المالكة ومسؤولين رفيعين في فندق، ومساومتهم على جزء من ثرواتهم مقابل الإفراج عنهم، ما عمّق الخلافات بين السلطتين، وأظهرها إلى العلن برفض الرئيس الأميركي التعامل مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وإفراجه (بايدن) عن نتائج تحقيق استخباراتي أميركي يؤشر على مسؤولية بن سلمان بشأن خاشقجي.
تحوّلت المناورات السياسية والاقتصادية الخليجية إلى حالةٍ مقلقةٍ للإدارة الأميركية تشي بضعف تأثير الولايات المتحدة في حلفائها
أتاح الغزو الروسي لأوكرانيا، وما رتّبه من مواقف وتبعات سياسية واقتصادية فرصة لدول الخليج العربية عامة، والسعودية خصوصاً، للضغط على الإدارة الأميركية لدفعها إلى تغيير مواقفها من ملفات وقضايا تتعلق بمصالحها المباشرة عبر رفض الاستجابة لطلبات الإدارة بإعلان موقف صريح وواضح ضد الغزو الروسي، وزيادة إنتاجها من النفط للتأثير بسوق النفط وتعويض دول الاتحاد الأوروبي عن النفط الروسي، ما يتيح لها وضعه على جدول العقوبات، والتأثير بأسعاره التي ارتفعت وتحولت إلى الضد من مصالح الإدارة الديمقراطية بتضرّر الناخب الأميركي من التضخم عموماً، وارتفاع سعر غالون البنزين خصوصاً، ما سيلعب دوراً في تصويته في الانتخابات النصفية في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، في غير صالح المترشّحين الديمقراطيين.
تحوّلت المناورات السياسية والاقتصادية الخليجية إلى حالةٍ مقلقةٍ للإدارة الأميركية تشي بضعف تأثير الولايات المتحدة بحلفائها، وتفتح الباب لتمرّد دول أخرى على توجهاتها وخياراتها السياسية والاقتصادية، ما دفعها إلى إرسال الوفود والمسؤولين السياسيين والأمنيين إلى دول الخليج العربية، المملكة خصوصاً، للضغط من أجل تغيير المواقف، وأخذ القرارات المطلوبة سياسياً واقتصادياً، من دون تحقيق نتائج مرضية، ما دفعها إلى لعب أوراق ضغط، بما في ذلك ضربات تحت السرّة، بالبحث عن بدائل لنفط الخليج عبر الانفتاح على فنزويلا، أكبر احتياطي نفطي، والدفع باتجاه التفاهم مع إيران على البرنامج النووي، بحيث تعود إلى سوق النفط والغاز بكل طاقتها الإنتاجية الضخمة.
لن يكون التوصل إلى صفقة شاملة سهلاً، فالخلافات في وجهات النظر والطموحات كبيرة وكثيرة
ساعدت إسرائيل في تجسير الفجوة بين السلطتين، عبر الضغط على السعودية وتخويفها من نجاح المفاوضات بشأن الاتفاق النووي الإيراني، من جهة، ومن التوجه لرفع العزلة عن فنزويلا وإعادتها إلى سوق النفط بطاقتها الكاملة، ما يؤثر بحصة المملكة في سوق النفط، من جهة ثانية، وطمأنت السعودية على أمنها الوطني بتطويق إيران وتقييد حركتها في الإقليم، عبر مشروع شبكة دفاع جوي مضادة للصواريخ والطائرات المسيَّرة يتكون من قواعد ومراكز للإنذار المبكر والصواريخ والطائرات والقدرات الإلكترونية، يربط دفاعات دول الخليج العربية ومصر والأردن والعراق وإسرائيل، يعمل عليه الكونغرس لملء الفراغ الذي يسبّبه سحب أنظمة الدفاع الصاروخي الأميركية، باتريوت وثاد، من الإقليم، للحد من أخطار المسيّرات والصواريخ البالستية الإيرانية، بحيث تكون خطوةً على طريق إقامة نظام دفاعي جديد للشرق الأوسط، وإدماج إسرائيل في الإقليم، في ضوء ما أتاحه نقلها إلى مسرح عمليات القيادة الأميركية الوسطى، الذي يمتدّ من أفغانستان إلى المغرب، ومن آسيا الوسطى إلى القرن الأفريقي، وعقد اتفاقيات أبراهام التطبيعية بينها وبين الإمارات والبحرين، من فرص التنسيق الأمني وتبادل المعلومات وإجراء تدريبات ومناورات مشتركة معها، من جهة ثالثة.
انطوت الدعوة الملكية السعودية على مستوى من التفاهم والاتفاق المبدئي على رأب الصدع والبحث عن حلول للملفات العالقة بين السلطتين، وشكّلت، في الوقت نفسه، مستوىً من الإحراج لهما، فالرئيس الأميركي محرجٌ من مقابلته وليّ العهد السعودي، بعد أن تجاهله طوال الفترة الماضية، ولم يتحدّث إليه بالهاتف، خصوصاً مع وجود تيار تقدمي قوي داخل الحزب الديمقراطي، يعتبر الاجتماع إليه خيانة للقيم والمبادئ الديمقراطية، وقد كان الإحراج واضحاً في تسريبات أميركية على لسان الرئيس ومساعديه والناطقين باسم الإدارة، حيث قيل إن الاجتماع به لن يكون خاصاً، بل ضمن مجموعة، قد يكون ضمن الاجتماع الموسّع الذي سيضم الرئيس الأميركي وقادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق، والإعلان أن الرئيس لن يمرّر المناسبة من دون الحديث عن قتل خاشقجي. كذلك سيطرح التزام حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة. وكرّر وزير الخارجية الأميركية، أنتوني بلينكن، أنهم يتحدثون مع السعودية عن حقوق المثليين في كل لقاء. وهذا لن يرضي ولي العهد السعودي، حيث سيبقى يشعر بعدم تحقيق هدفه المعلن، دفع الإدارة الأميركية إلى مباركة سياساته الداخلية والخارجية. وهذا قاده إلى العمل على تأكيد مكانته الإقليمية عبر زياراته القاهرة وعمّان وأنقرة قبل زيارة بايدن المملكة.
اللحظة السياسية تعمّق التناقضات وتفتح باب المساومات والخيارات الآنية التي لا يمكن الركون إليها كاستراتيجية ثابتة وموثوقة
لن يكون التوصل إلى صفقة شاملة سهلاً، فالخلافات في وجهات النظر والطموحات كبيرة وكثيرة، من البرنامج النووي الإيراني إلى مواجهة سياسة التدخل الإيرانية في دول الجوار العربي، إلى تصنيف حركة أنصار الله، الحوثيين، منظمة إرهابية، مروراً بالعلاقات العسكرية السعودية الصينية، تصنيع مسيّرات وصواريخ بالستية صينية في السعودية، والتنسيق في مجال إنتاج النفط مع روسيا المعروف بـ"أوبك+"، رفع إنتاج النفط للتأثير بالأسعار ولجم التضخم المتصاعد وتوفير فائض يتيح وقف استيراد النفط الروسي، إلخ. فالعودة إلى شراكة استراتيجية لا تستدعي تغييراً كبيراً في التعاطي مع الملفات العالقة بين السلطتين فقط، بل وتغييراً في الخيارات الاستراتيجية: تخلي واشنطن عن توجهها إلى الانسحاب من الشرق الأوسط لمصلحة توجهها نحو منطقة الهندي والهادي لمحاصرة الصين، التراجع عن أولوية مواجهة السعي الصيني الروسي إلى تغيير قواعد النظام الدولي، التراجع عن سياسة الدفاع عن حقوق الإنسان وترويج القيم الغربية، بالنسبة إلى الإدارة الأميركية. والتراجع عن البحث عن حلفاء لتغطية الانسحاب الأميركي بالتوجه شرقاً والتعاون مع روسيا والصين، وتنويع مصادر السلاح، بالنسبة إلى المملكة. وهي خطواتٌ صعبةٌ في ظل التطورات الجارية في المعادلات الإقليمية والدولية، حيث يمر النظام الدولي بمرحلة عدم استقرار، بانتظار ما سيُحدثه الغزو الروسي لأوكرانيا من أثر على قواعده غربية المنشأ. بالإضافة إلى ما يشهده العالم من كوارث طبيعية وأوبئة تحت تأثير تحولات المناخ، والبحث عن طاقة صديقة للبيئة، توقف احترار الغلاف الجوي وانعكاسه الخطير على المناخ بانتشار الأوبئة، وذوبان الجليد في القطبين الشمالي والجنوبي، ما يضع الدول المنتجة والمصدّرة للنفط في موقف دقيق وحرج بين استخدام مستوى الإنتاج للتأثير بالأسعار وتحقيق مكاسب مالية ونفوذ سياسي وبين التعاطي الإيجابي مع التطلعات الغربية لزيادة سقف الإنتاج، ودفع الأسعار إلى التراجع، وخسارة عوائد مالية ضخمة، في الوقت الذي تسعى فيه الدول الغربية لتأمين احتياجاتها من النفط والغاز، عبر العمل على تأمين مصادر بديلة للنفط والغاز الروسيين، تحت عنوان مضلّل: أمن الطاقة، لحماية مصالحها الوطنية وكسر الأسعار لاحتواء تذمّر مواطنيها، فاللحظة السياسية تعمّق التناقضات وتفتح باب المساومات والخيارات الآنية التي لا يمكن الركون إليها كاستراتيجية ثابتة وموثوقة.