الفخّ التركي
أثار التحرّكُ التركي في شمال غرب سورية، العمل على فتح معبر أبو الزندين، قرار حلّ فصيل صقور الشام، إغلاق المعابر بين الأراضي التركية والسورية، أسئلةً وقلقاً بين قوى المُعارَضة السورية، السياسية والعسكرية، وتحرّكاً ميدانياً مباشراً ضدّ فتح المعبر، والتفافاً على قرار حلّ فصيل صقور الشام باندماج هذا الأخير مع الجبهة الشامية، وتظاهرات ضدّ الإدارات التركية وضدّ بعض نقاطها العسكرية، كاشفاً عن احتقان سياسي واجتماعي كبيرَين من النظام التركي ومن الفصائل الموالية له.
لم يكن التفسير الذي قدّمه النظام التركي لهذه الخطوات مقنعاً، فالقول إنّ فتح المعبر اقتصاديٌّ محض ولا علاقة له بالتطبيع مع النظام السوري، كما القول إنّ قرارَ حلِّ فصيل صقور الشام هدفه دمج الفصائل الصغيرة في الفِرَق الكبيرة التابعة للجيش الوطني السوري من أجل تكريس التماسك وتعزيز القدرات، والقول إنّ إغلاق المعابر هدفه احتواء الفوضى وضبط التعدّيات، ليست أكثر من تبريرات هدفها احتواء الرفض الشعبي والفصائلي للموقف التركي من التطبيع مع النظام، إذ إنّ فتح "أبو الزندين" ليس سوى خطوة اختبارية في طريق فتح الطرق الرئيسة، التي تربط الشمال الغربي بحلب واللاذقية ودمشق، تمهيداً لتطبيع العلاقات الاقتصادية مع النظام السوري، وحلّ فصيل صقور الشام مرتبط بمقاومة فتح المعبر المذكور ومعارضته التطبيع مع النظام السوري، وإغلاق المعابر رسالة صارمة للمُعارَضة السورية وحواضنها، تنطوي على تهديد بقطع الإمدادات الدولية والتجارية، وبتجويع سكّان الشمال الغربي. وكانت لقاءات سياسية قد جمعت بين مسؤولين من الخارجية والاستخبارات التركية مع المُعارَضة السورية ووجهاء من الشمال الغربي لمناقشة الموقف، لكنّها لم تقدّم إجاباتٍ مقنعةً، ما فُسِّر محاولاتٍ من النظام التركي لاحتواء ردَّات الفعل ووقف التداعيات، عبر حديث بالعموميات عن الشراكة السياسية وعن عدم تخلّيه عن المُعارَضة السورية، وتمسّكه بالحلّ السياسي وفق مُقتضى قرار مجلس الأمن 2254 (نص على بدء محادثات سلام في سورية ودعا إلى تشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخابات برعاية أممية)، وفشلها في طمأنة المُعارَضة السورية، العسكرية على وجه الخصوص، فالوقائع في الأرض تقول كلاماً مناقضاً لحديث المسؤولين الأتراك، فما يجري له دلالات مختلفة، فاللعبة الرئيسة التي تقودها الاستخبارات العسكرية التركية مع فصائل المُعارَضة المسلّحة هي بذر بذور الخلاف والعداوة بينها ودفعها للاستنفار الدائم في وجه بعضها بعضاً، كما عدم منحها فرص الاستقرار في المكان عبر تحريكها الدائم من مواقعها إلى مواقع جديدة، لمنع تشكّل حالات تفاهم وتضامن مع البيئة المحلّية، عدا عن التمييز بينها بالمعاملة والتسليح وحرّية التصرف، فالأفضلية للفصائل التركمانية ممثّلةً بالقوّة المشتركة المكوَّنة من فرقتي السلطان سليمان شاه (الشهيرة بالعمشات)، و"الحمزة" (الشهيرة بالحمزات).
لعبة الاستخبارات التركية هي زرع الخلاف والعداوة بين فصائل المعارضة السورية، والتغيير الدائم لمواقعها لمنع تفاهمها مع البيئة المحلّية
لم يكن مصادفةً أن تتزامن الخطوات المذكورة أعلاه مع تصريحات القيادة التركية المتواترة عن استعدادها للتطبيع الفوري مع النظام السوري، والعمل عبر أقنية أمنية ودبلوماسية لترتيب لقاء بين رئيسَي النظامَين التركي والسوري في بلد ثالث، ما يدلل على عدم صدق وعود النظام التركي، وعلى تحرّكه بدلالة مصالحه فقط، وتوظيفه قوى المُعارَضة السياسية والعسكرية شاهدَ زور لتبرير خطواته وتزيينها في عيون المواطنين، وتسويقها لديهم عبر الادعاء أنّها في صالح الثورة السورية، وأنّها شاركت في صياغتها قبل أن تكشف التسريبات الإعلامية زيف هذه الادعاءات، وتكشف الوقائع قسر النظام التركي لهذه المُعارَضة على التصرّف والعمل بالتوجيهات المعطاة لها، بدءاً بتزيين عمليات دمج الفصائل، التي تبيّن أنّ هدفها صياغة توازن قوى بين الفصائل المسلّحة في شمال غرب سورية تكون الأرجحية فيه لفصائل ولاؤها مطلق للنظام التركي، تمهيداً لقيامها بالدور المطلوب عندما يتطلّب التحرّك السياسي التركي للتطبيع مع النظام السوري مساندةً عمليةً، كما سبق وحصل في مفاوضات أستانة، حين رتّب النظام التركي وفداً عسكرياً للتحدّث باسم المُعارَضة في المفاوضات، ودلّت الوقائع أنّ الوفد لم يكن له دور في المفاوضات، وأنّه ذهب ليعلن تفويضه الجانب التركي بالتحدّث نيابة عن المُعارَضة.
لم تستمرّ لعبة الاستغباء والخداع التركية طويلاً، فقد كشفت تسريباتٌ إعلاميةٌ تركيةٌ حقيقةَ الموقف التركي ودوافعه، والمدى الذي يمكن أن يذهب إليه. قال المُحلّل السياسي التركي سمير صالحة في مقالة له تحت عنوان "خلط أوراق في الشمال السوري"، نشرها في موقع تلفزيون سوريا (22/9/2024)، "هناك رغبة تركية واضحة بالذهاب وراء الإعداد لخريطة أمنية سياسية جديدة في مناطق الوجود العسكري التركي في الشمال السوري، تأخذ بعين الاعتبار التحوّلات والمتغيّرات المحلّية والإقليمية، والقناعات التي تلتقي حول ضرورة إنهاء الأزمة التي طال أمدها في سورية وحمّلت كثيرين أعباءَ باهظةً لم يعد من الممكن إضافة الجديد إليها"، وأضاف "تفعيل أنقرة لمنظومة عسكرية أمنية جديدة في مناطق نفوذها في الشمال بالتنسيق مع قوى المُعارَضة السورية مسألة مرتبطة مباشرةً بسيناريوهات الحوار التركي مع النظام في دمشق واحتمالات النجاح والفشل، التي تستدعي الجهوزية أمام الاحتمالين"، وكشف عن مدى "التزام" النظام التركي بمطالب المُعارَضة بقوله: "لا تريد أنقرة فرض خياراتها ومواقفها على شركائها، لكنّها لن تسمح بعرقلة تحرّكها المرتبط بوضع أمني ميداني اقتصادي سياسي يستدعي خطّةً جديدةً بديلة في التعامل مع مسار الملفّ السوري ككل". وهو توجّه أكّده الكاتب التركي فراس رضوان أوغلو في مقالة له تحت عنوان "هل لدى تركيا خطّة لتعديل وجودها العسكري في سورية؟"، نشره في موقع تلفزيون سورية (28/9/2024)، قال فيه: "ربّما بعد التفاهم مع النظام السوري يمكن الحديث عن انسحاب القوّات العسكرية التركية، ولكن من خلال مصطلح "إعادة انتشار"، فهي بذلك لا تحتاج إلى نشر عدد كبير من الجنود، بل يمكن أن تحلّ محلّهم قواتٌ تتبع المؤسّسة العسكرية للنظام السوري أو قوّات مشتركة بين النظام والمُعارَضة (في حال تمّ ذلك)". قوات مشتركة بين النظام والمُعارَضة السوريَين؟!
ارتبطت دعوات النظام التركي المتواترة إلى النظام السوري للانخراط في عملية تطبيع مباشرة وجهاً لوجه بتقدير النظام التركي للمتغيرات المحلّية والإقليمية والدولية العاصفة والمتسارعة، وبضرورة الاستعداد لملاقاتها بترتيبات محلّية وإقليمية ودولية تمنحه فرصةَ مواجهتها والحدّ من تأثيرها على النظام والمصالح التركية، ما جعله في سباق مع الزمن. ففي الأفق الانتخابات الرئاسية الأميركية وما يمكن أن تحدثه من تأثيرات في المصالح التركية، في حال فوز المُرشَّحة الديمقراطية كامالا هاريس، ستزيد الدعم العسكري لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وفي حال فوز المُرشَّح الجمهوري دونالد ترامب، يمكن أن يقلّص الدعم ويمكن أن يسحب القوات الأميركية من منطقة شرق الفرات، كما سيكون لنجاح أيّ منهما تأثير مختلف في الملفّات الساخنة؛ العدوان الروسي على أوكرانيا؛ حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها الكيان الصهيوني على قطاع غزة والضفّة الغربية؛ واحتمال توسّع الحرب وتحوّلها حرباً إقليميةً واسعةً بعد نقل ثقلها إلى لبنان عبر حملة الاغتيالات ضدّ قيادات وكوادر حزب الله والقصف الجوي المدمر على المدن والبلدات في جنوب لبنان، وتمدّده إلى معقل الحزب في الضاحية الجنوبية لبيروت، والتوغّل البري (المحدود؟)؛ وانعكاسات ذلك جيوسياسياً في ضوء إعلان رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو هدفه بتغيير خريطة الشرق الأوسط، وعدم استبعاد مهاجمة البرنامج النووي الإيراني في حال القضاء على خطر صواريخ حزب الله البعيدة والدقيقة؛ والقتال الوحشي في السودان؛ واحتمال انفجار مواجهة مباشرة بين إثيوبيا والصومال مع احتمال انخراط دول إقليمية مثل مصر وإريتريا فيها؛ وتحرّك النظام الإيراني لإحداث تغيير مذهبي في دول الجوار العربي يمنحه حاضنةً شعبيةً ونفوذاً دائماً فيها.
سيتحرّك النظام التركي لملء فراغ سحب مقاتلي حزب الله من سورية، من دون اعتبار للاعتراض السابق من النظام الإيراني
التطوّرات في لبنان، والضربة التي تلقّاها حزب الله باغتيال قادته، بمن في ذلك أمينه العام (جاء اغتيال حسن نصرالله لقطع الطريق على احتمال التفاهم الأميركي الإيراني بعد المقاربة الإيرانية الجديدة للانفتاح على الغرب، ووصف الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان الأميركيين بأشقائنا، وابدى الاستعداد للعودة إلى الالتزام بموجبات الاتفاق النووي في حال عودة الأطراف الأخرى إلى الالتزام بها)، ودخول إيران في حالة صدمة وجمود إثر اغتيال نصرالله... ذلك كلّه سيزيد زخم تحرّك النظام التركي في ملفّ التطبيع مع النظام السوري، مستغلّاً غياب الممانعة الإيرانية التي عطّلت محاولاته السابقة، خاصّةً أنّ تضعضع حزب الله، واضطراره لسحب قواته من سورية، سيترك فراغاً كبيراً لدى النظام السوري، الذي سيزداد ضعفاً بسبب ذلك، غير قادر على ملئه، وروسيا منخرطة في عدوانها على أوكرانيا، وتستعدّ لتغييرات عاصفة في حال فوز المُرشَّحة الديمقراطية في الانتخابات الرئاسية الأميركية، التي قد تجيز لأوكرانيا استخدام صواريخَ أميركيةٍ بعيدة المدى لضرب الأراضي الروسية، ما يستدعي ردّاً روسيًاً قد يأخذ شكل ضربات نووية تكتيكية. وهذا سيدفع النظام التركي إلى التحرّك لملء الفراغ الذي سيخلفه سحب مقاتلي حزب الله، كي لا تتحرّك "قسد" وحزب العمّال الكردستاني أو هيئة تحرير الشام لفعل ذلك، من دون اعتبار للاعتراض السابق من النظام الإيراني، لأنّ إيران ضعيفة من دون حزب الله، وبسبب موقف أميركي جديد طالبها بوقف دعمها لأذرعها المنتشرة في المنطقة، لذا ستحرص على تمتين العلاقة مع تركيا، كي تدعمها في مواجهة المرحلة الصعبة، وغضّ الطرف عن التحرّك التركي في سورية.
ما يجري في شمال غرب سورية فخّ تركي خطير، ستكون له انعكاسات شديدة السلبية على تطلّعات الشعب السوري نحو حياة حرّة وكريمة، وعلى مستقبل سوري آمن ومُزدَهر.