انفجار الهويات في تعيين غابريال أتال
انفجار الهويات يمكن رصدُه في كل مكان. وفرنسا، بوصفها مكاناً تتكثف فيه الهويات، القومية والدينية والعقائدية والجندرية، غالباً ما تكون مسرحاً لهذه الانفجارات الصغيرة والكبيرة. الأسبوع الماضي كان هوياتياً بامتياز هناك مع تعيين غابريال أتال (أو عطّال) رئيساً للحكومة بدل إليزابيث بورن. كُتب ما كان مفيداً قوله: التعيين هو ترشيح مبكر من إيمانويل ماكرون خليفة له في انتخابات رئاسة الجمهورية عام 2027. أوجه الشبه بين الرجلين، ماكرون وأتال، عديدة. الأول حامل لواء تدمير ثنائية اليمين واليسار، أي إلغاء السياسة كما نعرفها، والثاني تلميذ نجيب بمدرسة تحويل السياسة إلى إدارة تقنية لا حياة فيها للشؤون العامة مثلما تُدار القطاعات الخاصة، بلا توجه عام وعناوين عريضة تتيح تنافس الأفكار بين البشر على أفضل الأهداف وأنبل الأدوات لفائدة أوسع قاعدة شعبية مستفيدة ممكنة. ملامح الغرور والعجرفة مشتركة بينهما. كُتب طبعاً أن اختيار الشاب الاشتراكي السابق أتال، كأصغر رئيس لحكومة في تاريخ فرنسا (34 عاماً) يصوّب مبكراً على المرشحة الرسمية لليمين المتطرّف مارين لوبان، أو على الوجه الجديد للفاشية الفرنسية، الشاب جوردان بارديلا (28 عاماً) زعيم حزب لوبان، "التجمع الوطني"، ليكون الناخب أمام شابين اثنين، أتال وبارديلا، مختلفين في كل شيء: أتال من أب يهودي ــ فرنسي ــ تونسي، في مقابل بارديلا آتٍ من أكثر الأوساط المسيحية كرهاً لليهود ولكن حباً لإسرائيل في الآن ذاته. يكفي أن بارديلا ابن نظرية "الهولوكوست تفصيل في التاريخ" على قولة جان ماري لوبان، مؤسس الحزب، ووالد مارين. أتال أول رئيس حكومة فرنسي مثلي الجنس علناً، في مقابل بارديلا سليل أكثر حزبٍ يميني محافظ أخلاقياً إلى درجة الهوموفوبيا. أتال مصرّ، كما أستاذه ماكرون، على انتهاء زمن اليمين واليسار، وبارديلا يريد إعادة هذا الانقسام إلى جذره البدائي، ليكون اليمين مرادفاً للوطنية، واليسار معادلاً لنقيضها. يمكن سرد الكثير عن المواجهة المحتملة بين أتال وبارديلا أو لوبان بعد سنوات ثلاث ونيّف، وعن ارتباطها باختيار غابريال أتال رئيساً للحكومة، كذلك يمكن السير في اتجاه معاكس للقول إن تعيينه اليوم هدفه حرق الشاب سياسياً ربما لفائدة يمينيي ماكرون والماكرونية المتشدّدين مثل وزير الداخلية جيرالد دارمانان، فالمعروف في السياسة الفرنسية أن رئيس الحكومة هو المسؤول الأول عن السياسات الداخلية غير الشعبية لرئيس الجمهورية، بالتالي هو الذي يضعه الرئيس في الواجهة عند كل إشكال يحصل مع النقابات والرأي العام وطلاب الجامعات والمتقاعدين.
في الصحافة غير الفرنسية، كان يمكن لخبر تعيين غابريال أتال أن يُسيل حبراً كثيراً حول هذه العناوين التي تمس بلداً مهمّاً كفرنسا. لكن هيهات، فما غلب على تيار أساسي من الإعلام في العالم، فضلاً طبعاً عن أوكار التفاهة والتسطيح والتجهيل، أي منصّات التواصل الاجتماعي، كان التركيز على أن الرجل مثلي جنسياً، ونصفه يهودي. وعندما لم تحضر هذه الثنائية المثيرة في العناوين الصفراء، فإنها حضرت في المتن أكثر بكثير مما حضر أي تقييم سياسي لتعيين الرجل والتوقعات الخاصة به. أتال ليس يهودياً، لا رسمياً ولا ضمنياً، ذلك أنه "على الورق" مسيحي أرثوذكسي (ديانة والدته) وفعلياً غير مؤمنٍ مثلما قال أكثر من مرة لأنه تأثر بقول لوالده إن "الله مات في أوشفيتز". أكثر من ذلك، حتى ولو كان يهودياً (وهو ليس كذلك)، فلا جديد في ذلك، إذ سبقه أربعة رؤساء وزراء يهود في فرنسا أو من جذور يهودية، إليزابيث بورن ولوران فابيوس وبيار منديس ــ فرانس وليون بلوم. رغم ذلك، عصر انفجار الهويات الدينية يجعل معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية واليهودية في العالم تقريباً تعنون على نصف يهودية الشاب. في السيرة السياسية القصيرة لأتال، يحضُر ما يحلو لكل معارِض للعلمانية أن يجتزئ ما يناسبه لهجاء أشهر قرار اتخذه أتال وزيراً للتعليم (من أهم المناصب السياسية في الحكومة) في سبتمبر/ أيلول الماضي، أي منع المظاهر الدينية في المدارس الحكومية. يحصُر مسلمون القرار بمنع ارتداء العباية، مع أنه يحظر كل المظاهر الدينية في المدارس الحكومية، العباية والقلنسوة اليهودية والصلبان الظاهرة.
لائحة طويلة من الأسباب تجعل من المشروع اعتبار تعيين غابريال أتال نكسة للسياسة بوصفها صراعاً بين برامج. يكفي القول مع صحيفة ليبراسيون إن أتال هو ماكرون اليوم الآتي لكي نتوقّع الأسوأ منه. أما الحكم عليه انطلاقاً من هويته الدينية وميوله الجنسية، فإنما ذلك لا يليق إلا بعصر الهويات والكراهيات وانفجاراتها.