انتفاضة لبنان بعد عام
كلما اقترب تاريخ السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول، تضاعفت جهود آباء النظام اللبناني وأمهاته لإقناع أنفسهم أولاً بأن شيئاً لم يحصل في مثل هذا اليوم قبل عام. 12 شهراً مرّت وحكام لبنان وأجنحة سلطتهم في الإعلام والمصارف والأمن لم يتعبوا في استنفار كل ما يقع من وسائل تحت أيديهم لإقناع من يهمه الأمر أن تلك الانتفاضة التاريخية في مستوى خروج أناسها عن المذاهب، وفي اكتشافهم الارتباط العضوي بين الفساد والطائفية، يمكن إعلان دفنها نهائياً ورسمياً، على أن تتكفل بعض الأسابيع أو الأشهر الإضافية بمحو ما تبقى منها في الذاكرة.
كثيرة كانت محطات محو ذلك التاريخ. معظم العمل جاء من توقيع رموز النظام اللبناني مباشرة بثلاثي السلطة، حزب الله وتيار رئيس الجمهورية وحركة أمل: رفع منسوب الطائفية إلى حده الأقصى لحرمان الانتفاضة من صفة التمثيل الوطني الشامل. تجاوز مرحلة التلويح بالحرب الأهلية واستحضارها بالفعل في الشارع عبر الاعتداء على شباب الانتفاضة وشاباتها بوتيرة يومية وإحياء ذاكرة خطوط التماس بين المناطق على وقع شعارات وصرخات تتمنى عودة أيام الاقتتال الأهلي الطويل (1975-1990) وذاك المختصر (7 مايو/ أيار 2008). استعجال هجرة من لم يهاجر بعد من كوادر بإمكانها إحداث الفارق في الربط بين المناطق والشوارع المنتفضة، وذلك بدعوة صريحة سجّلها ميشال عون باسمه شخصياً. حشد إعلام السلطة مواهبه لتقليد نظيره المصري: هناك، يخبرونك أن الانهيار الاقتصادي ارتكبته ثورة 25 يناير، وهنا ليس الإفلاس إلا حصاد ما زرعه المنتفضون. وأخيراً، اتخاذ موقف المتفرّج حيال الإفلاس المالي وما يرافقه من انقراض متزايد للطبقة الوسطى، صانعة التغييرات العميقة في المجتمع والسياسة. وعندما عجزت أسلحة السلطة عن إخماد كل النيران، جاءت الصدفة ممثلةً بـ"كورونا" لكي تتكفل بجزء ليس هيناً من المطلوب فعله. ولكي تكتمل فصول الحكاية، انفجرت بيروت بمرفئها وتشرّد المنتفضون المرهقون. وقد ساهم في الضمور، قصور في قدرات وقرارات أهل الانتفاضة الشعبية الذين اعتصموا بزهد مبالغ فيه بالسلطة، بخطاب وسلوك معاديين للسياسة وللقيادة وللأحزاب عموماً، فرفضوا الاقتراب من مشروع تكوين إطار سياسي بديل عن الموجود خشية التلبس بتهمتي العمالة والانتهازية، بدل الانخراط في معارك سياسية في سبيل تصحيح النظام والممارسة والقوانين والدستور من داخل النظام نفسه من قبل أحزاب علمانية جديدة غير مرتبطة بالخارج وذات صفة تمثيلية تطمح إلى اكتساب جمهور الطوائف بمشروع وخطاب يعلي المواطنية فوق أي انتماء.
تحل ذكرى اندلاع انتفاضة 17 أكتوبر اللبنانية، وقد بلغ رموز السلطة مرحلة إعادة تشكيل سلطتهم نفسها وبرئاسة سعد الحريري مجدداً وبيد فرنسية طويلة كلفت نفسها مهمة لمّ شمل أطراف النظام اللبناني المسخ تحت شعار "مشاركة الجميع" في السلطة لكي تصل المساعدات والقروض والهبات إلى الجميع، ومن ضمنهم حزب الله، وهو "الحزب المنتخب" الذي لا بد أن يتمثل في السلطة على ما أخبرنا إيمانويل ماكرون. وفي أجواء الذكرى الأولى لتلك الانتفاضة، يسهل على ثلاثي السلطة حسن نصر الله وميشال عون ونبيه بري تسمية سعد الحريري لرئاسة حكومة جديدة، مع علم الجميع بقرار رأس السلطة، حسن نصر الله، ومرشده في طهران، عدم تشكيل مجلس وزراء قبل معرفة هوية الرئيس الأميركي الجديد. ولا تجدي هنا مكابرات محور إيران وأتباعه وعنترياته المضحكة في زعم عدم الاكتراث باستحقاق البيت الأبيض. في الذكرى السنوية الأولى لانتفاضة أكتوبر، تكتمل مهمة محو انتفاضة أكتوبر من الواقع السياسي. سعد الحريري يحاول إقناع شركائه بالتواضع في تمثيل أحزابهم في حكومته المستقبلية، ويطمئنهم إلى "أننا لن نموت كأحزاب" في حال شكلنا حكومة طوارئ لا تستفز الخارج، العربي والأميركي. نقاش لا علاقة له لا بانتفاضة أكتوبر ولا بشعار بناء دولة مواطنة حقيقية خارجة عن تحالف الفساد والطائفية وسلاح المليشيا، لعلّه يقنع أهل الانتفاضة هذه المرة بأن شعار "لا أحد يمثلنا" و"لا نريد أحزاباً" لا يفعل إلا تأبيد حكم العصابة.