انتخابات أخرى في تونس ولا أفق

26 ديسمبر 2023

تونسي بعد تصويته في الانتخابات المحلية في ولاية أريانة (24/12/2023/فرانس برس)

+ الخط -

بعد إجراء الانتخابات التي ستُفرز أعضاء المجالس المحلية، وما يتبعها من اختيار نواب مجلس الجهات والأقاليم، تكون الملامح العامة للنظام السياسي الذي رسمه قيس سعيّد في دستور 2022 قد اكتملت. فقد كان الرئيس التونسي يؤكّد دائما أن التمثيلية الفعلية للشعب لا تكون عبر المجالس النيابية التي تفرزها الانتخابات التي تخوضها الأحزاب السياسية عبر قوائمها وممثليها، وإنما من خلال العودة إلى أصغر الوحدات الجغرافية ليختار الشعب ممثليه من خلال الاختيار بين المرشّحين بصورة فردية، ليكون التمثيل الشعبي صادقا وشاملا لكل الفئات والجهات.
كان المفترض أن يجد النظام السياسي القائم على التمثيل المباشر أو ما يسمّى في تونس بالبناء القاعدي دعما جماهيريا واسعا باعتباره يستبعد النخب الحزبية والقوى السياسية "الفاسدة" لصالح المواطن البسيط، غير أن نسب المشاركة في الانتخابات المتتالية التي تم تنظيمها منذ يوليو/تموز 2021، تاريخ انفراد الرئيس بالسلطة وبدء تنفيذه مشروعه السياسي، تكشف عن حالة عزوف شعبي ليس لها نظير في تاريخ تونس، بل وحتى على المستوى الدولي. ففي الانتخابات النيابية سنة 2022 لم تتجاوز نسبة المشاركة 11%، وهي النسبة التي أعلنت عنها الهيئة العليا للانتخابات بالنسبة للانتخابات المحلية التي جرت في 24 ديسمبر/كانون الأول الحالي. ويمثل هذا العزوف مشكلا حقيقيا لنظام سياسي يرفع شعارات التمثيل الشعبي المباشر، ويعتقد أنه التعبير الحقيقي عن روح الجماهير التي (حسب هذا التصوّر) تم خداعها سنوات في ظل الانتخابات التي جرت طوال العشرية الديمقراطية. في مثل هذه الأنظمة السلطوية التي تحاول الإيهام بأنها ديمقراطية، يتم اختصار الأخيرة إلى يوم الانتخابات. ولذلك، يتوقّف المجتمع عن أن يكون له تأثير كبير على أداء الدولة وسلوكها. بعبارةٍ أخرى، لا توجد برامج سياسية حقيقية قادرة على تعزيز احترام المؤسّسات وترسيخ ثقافة مدنية تتجاوز لحظة التصويت الرمزية. ومن ثم، تلعب الانتخابات دورًا حيويًا في ترسيخ شرعية من هم في السلطة، وتظل نسبة المشاركة الضعيفة في الانتخابات مصدرا للتشكيك في هذه الشرعية. وينبغي أن نتذكّر هنا أن من يقف وراء النظام الجديد وصل إلى السلطة وفقًا للقواعد الديمقراطية. وتبقى الحقيقة أنه بمجرّد حصوله على هذا الموقع، كان هدفه الأول تغيير قواعد الممارسة الديمقراطية. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من استمرار إجراء الانتخابات، تم عمليا إقصاء الأحزاب والنخب السياسية من المشاركة في الشأن العام.

الحملات الإعلامية المستمرّة الموجّهة لتشويه الأحزاب أفرزت عزوفا عن العمل السياسي، ودفعت قطاعات واسعة من الناس إلى عدم المشاركة في الانتخابات

في الديمقراطية الحقيقية، يتم تشجيع المنافسة السياسية والتمثيل من المسؤولين المنتخبين، بينما في ظل النظام السلطوي توضع هذه العمليات جانبًا لصالح المطالبة الحصرية بالتمثيل والحقّ في التحدث نيابة عن الشعب لشخص الرئيس. وينشأ شكلٌ من أشكال المنافسة، حيث، إلى جانب القوانين التي تواصل البرلمانات اعتمادها، تنبثق المزيد والمزيد من المعايير عن الأفعال التي تتّخذها السلطة التنفيذية وحدها، والتي يجسّدها شخص واحد، الكثير من المعايير التي تنافس أو حتى تحيّد القوانين المذكورة. أخيرًا، هناك سمةٌ مميزةٌ أخرى معروفة لهذه الأنظمة، تكمن في النمط المطلق للحكم الذي يتم تنظيمه حول عبادة الرجل القوي، النظيف، الكفء، العنيد، ولكنه أيضًا قريبٌ من الناس، وبعيدًا عن النخبة الفكرية أو السياسية. 
لقد حل الانقسام بين الشعب والنخب محلّ الانقسام بين اليسار واليمين، فالاشمئزاز من فساد النخبة (وبعضُه صحيح) يشهد على مطلب أخلاقي، سيكون من الكارثي الاستهانة به. ولكن بتجاهلها، أو التظاهر بتجاهل التناقضات التي تحيط بها، حيث يتم تصوير "النخب" باعتبارها كتلة متجانسة ومتواطئة، إنما يتم الإجهاز على العملية السياسية برمتها.
واقعياً، لم تعد الانتخابات التي يتم تنظيمها تعني شيئا في المشهد السياسي، فهي ليست فرصة للتغيير السياسي أو للتداول على مواقع القرار، وإنما تحوّلت إلى مجرّد لعبة بصرية لتأكيد فكرة استمرار الديمقراطية والتأسيس لنظام جديد متحرّر من سطوة الأحزاب والنخب الفاسدة. وإذا كانت الحملات الإعلامية المستمرّة الموجّهة لتشويه الأحزاب قد أوجدت حالة من الكراهية لها، إلا أنها، في الوقت نفسه، أفرزت عزوفا عن العمل السياسي، ودفعت قطاعات واسعة من الناس إلى عدم المشاركة في الانتخابات الفاقدة للرهان التنافسي الحقيقي، وتحوّلت إلى مجرد ممارسة شكلية لإثبات قيام نظام سياسي جديد، ولكن من دون أفق حقيقي لتغيير الواقع في ظل الأزمات الاجتماعية المتصاعدة، وغياب أي حوار سياسي حقيقي يمكن البناء عليه لإيجاد حلول للمشكلات العالقة في المدى القريب.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.