انتحال المشروعية واحتكارها .. واحتقارها
يبدو أن انتقال الدولة الوطنية الحديثة في بلادنا العربية مرتبط بالبحث عن المشروعية في عالم الشمال/ الغرب، مقابل استهانة (بل احتقار تام) للمشروعية النابعة من الداخل. في المقابل، بذل الصهاينة جهدًا كبيرًا لانتحال مشروعيةٍ يحاربون كل من يطعن فيها بشراسة، ما جعل مشروعيتهم المنتحلة "تبدو" متحدّية، قادرة على كسب مزيد من الأرض، مقابل مشروعيةٍ تختنق تحت ركام ضخم من الاحتقار العميق، حيث القوة تنتج المشروعية ولا تخضع لها أبدًا، وتلك من المحن الكبرى في واقعنا العربي.
واحتقار المشروعية يجعل التنازل، والتفريط في الحقوق، يبدو كما لو كان واقعية سياسية، فالمشروعية ليست مجرد "مقولاتٍ" يمكن انتحالها، ولا "إجراءات" يمكن تزويرها، بل قيم وقناعات يجب الاتساق معها. وفي غياب هذا الاتساق، يمكن التوقيع على أي قرار، وتمريره من خلال شكل إجرائي تُمسك السلطة مفاصله. ولو أن الصهاينة احتقروا المشروعية، لما كانوا في حاجة إلى انتحالها. وخلال حكم بنيامين نتنياهو، بذلت إسرائيل جهدًا، هو الأكبر، لمواجهة كل ما يعتبره الصهاينة سعيًا إلى "نزع المشروعية". وأصبحت هناك قائمة للمحرّمات التي تقاتل الدولة الصهيونية كل من تتهمه بانتهاكها بلا هوادة. وقاموس معاداة السامية، وإنكار الهولوكوست، وغيرهما، أصبح جزءًا أساسيًا من الخطاب في دول كثيرة، لتصبح دائرة انتشار مقولات المشروعية المنتحلة أوسع بكثير من نطاق انتشار الجماعات اليهودية والمنظمات الصهيونية. واحتقار المشروعية في علاقة الحاكم بالمحكوم في عالمنا العربي جعل دولًا عديدة تنظر لأي خطاب رسمي عربي (قبل اتفاق أوسلو) بوصفه نكتة!
احتقار المشروعية يجعل التنازل، والتفريط في الحقوق، يبدو كما لو كان واقعية سياسية
وإرغام الشعوب العربية على قبول الاستبداد المريض بـ "احتقار المشروعية" كان رسالة إلى العالم مفادها بأن هذه الشعوب يمكن إرغامها على "ابتلاع" المشروعية الصهيونية المنتحلة. وخلال ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، كانت فكرة الاتساق بين "الوطني" و"العالمي" دائمًا عصيةً على الهضم في الممارسة السياسية الرسمية العربية. وكان هناك سؤالٌ مضمرٌ في المساومة بين العرب والغرب حول المشروع الصهيوني، يربط بين مشروعية إنكار حقوق الشعوب العربية بدعوى: الضرورة، وكان اختيارنا يعني أن بعضهم يمكن أن يقبل، بل أن يسوّق، المشروعية المنتحلة ببساطة احتساء كوب شاي، لأن المشروعية بكل أشكالها موضع احتقار النخب الحاكمة. والتوجه السلطوي العربي نحو الشمال/ الغرب، بحثًا عن شهادات جدارة تحل محل أي مشروعية مصدرها الداخل، كان أكثر تلفيقية من الشرعية الصهيونية المنتحلة.
التوجه السلطوي العربي نحو الشمال/ الغرب، بحثًا عن شهادات جدارة تحل محل أي مشروعية مصدرها الداخل، كان أكثر تلفيقية من الشرعية الصهيونية المنتحلة
هل يمكننا عكس المسار؟ نظريًا ممكن، لكن المشكلة الأكبر أن "عوائد" احتقار المشروعية أصبحت من التضخّم بحيث تصعب استعادة مكانتها في الفكر والممارسة من دون تغيير العالم العربي جذريًا، ومعركة الديمقراطية في المنطقة هي في قلب الأزمة. ومع الوقت، أصبح غير المقصود مقصودًا، وواعيًا، ومـُخططًا ومُستهدفًا، بل عمود خيمة توافقٍ سياسيٍّ ليس بإمكان المتحالفين تحت رايته تحقيق أهدافهم من دون "صهينة العالم العربي"، من دون مواربة. والدولة التي روّجت، عقودا، أنها "فيلا أنيقة وسط الأحراش"، وديمقراطية وحيدة في عالم محكوم بالاستبداد العنيف، أعلنت، للمرة الأولى، عداءها القديم/ الجديد للديمقراطية، وتزّعمها التحالف الإقليمي المناهض لها. والنخب الرسمية (وغير الرسمية) التي تزدري المشروعية في "الداخل"، لن تستطيع أبدًا الحديث عن "المشروعية الصهيونية المنتحلة"، بل لن تسمح به، وهو ما وصلنا إليه أخيرا. وتسويق التنازل، والتفريط بحجة "الواقعية السياسية"، بدأ يحلّ محله، للمرة الأولى، خطابٌ عربي عن حقوق اليهود وأرضهم التاريخية و.. وبعد أن كان الخطاب الرسمي العربي يتحدّث عن تنازلاتٍ لأجل تسوية، أصبح هناك خطاب رسمي عربي عن اكتشاف متأخر لـ "مواطن الجمال" في المشروعية الصهيونية المظلومة. وهكذا، فإن حكم النظم السياسية العسكرية التي تحتقر المشروعية، والنظم الوراثية التي تحتكرها، أثمر وقوعًا في هوى "المشروعية المنتحلة"!