"الوصيّة"... قصّة النبي موسى على "نتفليكس"
عرضت منصّة نتفليكس أخيراً سلسلة قصيرة من ثلاثة أجزاء عن حياة النبي موسى، مثلما أوردتها الديانات الثلاث. وقد أراد صنّاع هذه السلسلة أن يعتمدوا الشكل الذي بات معروفاً ومعتمداً في التعاطي مع الشخصيات التاريخية من أمثال كليوباترا أو الإسكندر المقدوني، فيلتقي الأسلوب الروائي بالأسلوب الوثائقي لإنتاج ما يسمّى "دوكو فيكشن"، أي الرواية المصوّرة سينمائياً، يعقبها أو تتناوب بين مشاهدها آراء الاختصاصيين والمعلّقين من ذوي الخبرة والمعرفة في المجال. ومع أن السلسلة أكّدت في المقدّمة أنها "ليست رواية متفّق عليها"، فقد بدا، على العكس من ذلك، أن المُتدخلّين والمُعلّقين، ومعظمُهم من ممثلي هذه الديانة أو تلك، كانوا متفقين ومتوافقين وقد اعتمدوا "الرواية الرسمية"، ولم يشيروا، على لسان الدارسين أو الباحثين، إلى أيّ نقاط خلافٍ أو شكّ، وهي مواضيع سبق البحثُ فيها، وقد كُتبت فيها مقالاتٌ وأبحاثٌ ودراساتٌ أركيولوجيةٌ لم تُثبت أي وجود للعبرانيين في مصر، أو إقامة طويلة لهم في الصحراء، أو بحسب ما يرِد في الرواية الرسمية، استعبادهم خلال 400 عام ونيّف، وإرغامهم على العمل في أشغال شاقّة، منها بناء المعابد والأهرامات.
تروي السلسلة قصة النبي موسى منذ إلقائه وهو في سلّة في النيل، مروراً بنجاته من قرار الفرعون قتل كل الذكور العبرانيين، وإنقاذه من ابنة الفرعون، بتياه، التي كانت قد فقدت مولودها، فادّعت أنه ابنها وربّته أميراً مصرياً في القصر يجهل كل شيء عن أصوله. وإذ شبّ الصبي، وشاهد العُسف الذي يعاني منه العمّال العبرانيون، تدخّل ذات يوم للدفاع عن أحدهم، فارتكب جريمة قتلٍ أجبرته على الهروب إلى الصحراء، ومن ثم اللجوء إلى مديَن، حيث عاش في كنف عشيرة بدوية قرب جبل سيناء وتزوّج من إحدى بناتها، صفّورة ابنة الكاهن يثرون. هنا، شرح لنا المعلّقون أن امتلاك النبي موسى أكثر من هويةٍ لا بد وأن يخاطبنا اليوم، فهو القاتل الذي اختاره الربّ ليكون رسوله المحرّر، وهو الأمير المصري الذي تحوّل راعياً بدوياً، إذ "يختار الربّ الأشياء المعطوبة فلا يصلحها فقط، بل يعمل على إعادة استخدامها لغرض أهم بكثير".
يموت الفرعون الكبير ويخلفه، من يقدّر باحثون أنه كان "رمسيس الثاني" (خال موسى المصري)، ويخاطب الربّ موسى على قمّة الجبل آمراً إياه: "أرهم الطريق!"، أي أخرج العبرانيين من مصر، بعد أن التفت الربّ أخيراً إلى شكواهم، فيعود هذا الأخير مكلّفاً بمهمة، ستقوده إلى اللقاء بأخيه هارون بن عمران الذي سيُخبره من يكون، ومن هي عائلته الحقيقية.
بقية الأحداث معروفة، وهي المواجهة بين موسى والفرعون، لا بل بين إله العبرانيين وآلهة المصريين، حيث سيُعاقب يهوه عنجهية الفرعون وتعنّته بإنزال الآفات العشرة التي ضربت مصر، ومنها تحويل مياه النيل إلى دماء، واجتياح الذباب والأمراض والجراد والضفادع أرض مصر، ثم كسوف الشمس لثلاثة أيام، وانتهاء بإعلان يهوه: "أنا المدمّر، سأميت كل الأبناء البكر في مصر". هنا يتساءل أحدهم: "ما هذا الرب الذي يقتل الأبرياء"، فيما يعترف الآخرون بعجزهم عن تقديم إجابة شافية. وعند ذكر الإصحاح 13، من سفر الخروج، الآيتان 17 و18، يحضُر السؤال: لماذا أخذهم الربّ إلى البحر الأحمر ولم يُهدهم إلى أرض الفلسطينيين؟ فيأتي الجواب: "لأنه خشي إذا وجدوا حروباً، أن يقرّروا العودة إلى مصر".
"الوصية" سلسلة لا تُخبرنا بكثير مما نجهله، كما أنها لا تفاجئنا بأي جديد، لأنها لا تذكُر أياً من الأسئلة التي طرحتها الأبحاث والتنقيبات والدراسات العلمية التاريخية التي تقول بعدم وجود دليل أثري يثبت هويّة موسى أو رحلته الطويلة. هنالك فقط شاهدة الفرعون منبتاح المكتشفة في الكرنك، في نهاية القرن التاسع عشر، التي تذكُر قبيلة تسمى إسرائيل كانت تعيش في أرض كنعان حوالي عام 1200 قبل الميلاد، بينما تكثُر المعلومات حول الحياة اليومية تحت حكم فراعنة المملكة الحديثة في مصر (حوالي 1580-1085 قبل الميلاد). أيضاً، لم يعثر علماء الآثار على بقايا من رحلة الخروج، متسائلين كيف يمكن لمئات الآلاف من الأرواح أن تقضي أربعين عاماً في الصحراء، من دون أن تترك أثراً وراءها؟ والله أعلم.