الهاربون من مصر في عصر الثراء والتفاوت المستفزّ

12 يوليو 2023
+ الخط -

شوهدت، في الأيام القليلة الماضية، فيديوهات عديدة تنشُرها صفحات إعلاميين وصحافيين ليبيين، لتخليص مصريين من قبضة مهرّبي بشر، بل في يوم واحد نشر إعلامي ليبي أنه جرى تخليص قرابة 250 مصرياً، أغلبهم من الشرقية، ومن القرية نفسها تقريباً، من أيدي مهرّبين، وبينهم عدد لا بأس به من الأطفال تحت الثامنة عشرة، بطبيعة الحال من حق السلطات الليبية ممارسة الضبط، وتنفيذ قوانينها على أراضيها، وبالذات ما يتعلق بالهجرة غير الشرعية التي ترتبط بشكل وثيق بعلاقة ليبيا بدول الاتحاد الأوروبي، وهي مسألة رئيسية في العلاقات.

ما يثير القلق هنا أن هذه الأعداد الغفيرة من قرية واحدة، وما يثير القلق أكثر أن العديد من هؤلاء المصريين لا يريدون العودة، وإنما إكمال مشوار الهجرة إلى أوروبا، أو تفضيل البقاء في ليبيا على العودة إلى مصر التي لم تعد الأجور فيها تُبقيك على قيد الحياة، ناهيك عن أن تعدك بمستقبل أفضل لهؤلاء، سواء أكانوا صنايعية مهرَة أم عمّالاً، أم الداخلين الجدد إلى سوق العمل قليلي الخبرة، الساعين إلى العمل في أي مجال، اعتماداً على قدراتهم البدنية فقط.

لا يمكننا بالطبع لوم هؤلاء الذين يتحدّث بعضهم عن دفع 280 ألف جنيه مصري، أي ما يعادل تسعة آلاف يورو للذهاب إلى أوروبا، عبر دروب التهريب الأصعب والأكثر خطورة، فالأهالي تُضحّي بحثاً عن مستقبل ما لأبنائها، يختار بعضُهم أن يدفع مثل هذا المبلغ في مدارس دولية، أو جامعات خاصة، كاستثمار طويل الأجل، ليحصل أبناؤهم على شهادات تؤهلهم للسفر أيضاً، بينما لا يتحمّل آخرون كلفة الصبر حتى هذا الأجل الطويل، فيبيعون أراضيهم أو يستدينون لتسفير أبنائهم إلى أوروبا ودول الخليج، باعتبار هذا مشروعاً بحد ذاته.

تختلف الرؤى والهدف واحد، هو هجرة بعضهم، يبيع قوة عمله البدنية، ويحاول بعض آخر تحسين قدراته ومهاراته العلمية ليبيعها بسعر أعلى في سوق رأس المال العالمي الذي يشجّع انتقال السلع بحرّية تامة، بينما يضع قيوداً شديدة على البشر، منتجي تلك السلع، ويسعى إلى استنزافهم في إنتاجها ضمن بلدان لا تضمن أياً من حقوق العمل الآدمية في استنزاف وتسرّب للقيمة من الجنوب إلى الشمال، ومن الأطراف إلى المركز.

تعاني مصر واحداً من أعلى معدّلات التفاوت في العالم، بل وحتى إذا ما قورنت بدول عربية نفطية، فإن التفاوت فيها شديد الوطأة

قد يقول بعضهم بسذاجة متسائلين: لماذا يفعل هؤلاء هذا السلوك، ويقبلون على المخاطرة بحياتهم، ولا يفتتحون مشروعاً بتلك الأموال؟ والحقيقة، أنه يكفي لفهم الوضع الحالي أن تتابع تعليقات المصريين على أي من الصفحات المشهورة عند نشر أي منشورٍ لشخص كان في الغربة 35 عاماً أو أكثر أو أقلّ قليلاً يطلب الاستشارة، لأنه سيعود ليفتتح مشروعاً فتكون 99% من الردود والنصائح بألا يعود، وأنه لم يعد هناك مشروع مربح في مصر أو مجال عام يشجّع على الاستثمار. هذا رجل يطلب نصيحة مجانية من أناس عاديين، وبعضهم مختصّون، والغالبية العظمى مُجمعة على أن أفضل مشروع لأي مصري في هذه العشرية السوداء هو السفر ثم السفر. يدفع المصريون مبالغ طائلة للذهاب إلى الخليج بعقود عمل، أو حتى للذهاب إلى ليبيا، ومنها إلى مسالك التهريب إلى أوروبا عبر البحر.

أخبرني صديق استطاع الهجرة، عبر البحر، أن التكلفة في حدّها الأدنى تجاوزت 110 آلاف جنيه مصري (ثلاثة آلاف يورو) فقط للمهرّب، ليبقى في البحر أربعة أيام، هي الأصعب في حياته، لكنه يقول إن البقاء في مصر بوضعها الحالي هو الموت بعينه لك ولأسرتك، أن تعاني دون قدرة على أن تشكو وتئن فتسمعك الحيطان التي لها آذان في مصر اليوم، وقد تذهب وراء الشمس بالتعبير المصري الدارج، إذا سمعت تلك الآذان أنينك.

يدفعك كل شيء في المحروسة إلى الهروب والبحث عن خلاص فردي، ففي مجتمع الثراء الفاحش لفئة النصف في المائة الأعلى المتصارعين لحجز فيلات الساحل الشمالي ذوات المائة وخمسة عشر مليوناً، عندما يرى النظام ثلاثمائة شخص يتصارعون على حجز تلك الفيلات، يصوّر إعلامه أن المصريين أغنياء ويتنافسون على الفيلات، وبالتالي لا يزالون يتحمّلون مزيداً من الضرائب والجبايات، فيما لا يشير هؤلاء أبداً إلى أن هؤلاء لا يصلون إلى واحد في الألف من المصريين الباحثين عن أمان واستثمار في زمن التفاوت.

يهرب الأطباء والمهندسون والمهنيون، كما يهرب العمّال، بحثاً عن أجور عادلة وكرامة إنسانية

تفيد غالبية التقارير بأن مصر تعاني واحداً من أعلى معدّلات التفاوت في العالم، بل وحتى إذا ما قورنت بدول عربية نفطية، فإن التفاوت فيها شديد الوطأة، سواء كان في الدخل أو الثروة، وهو تفاوتٌ يفصح عن نفسه في كل مناسبة وفي غير مناسبة.

المشكلة أنه في بلدان عديدة شبيهة في معدلات التفاوت، لا تعلن هذه التفاوتات عن نفسها سوى في الدخل والثروة، وفي العديد من هذه البلدان حدّ أدنى من الخدمات العامة الآدمية للجميع، وأنك لا تستطيع تفريق الغني من الفقير عند التعامل مع النظام الصحي أو التعليمي أو المواصلات العامة التي يركبها الجميع، لكونها آدمية، ولا تجد المجمّعات السكنية الانعزالية نموذجاً محتكراً من الأغنياء وشديدي الثراء فقط، بل قد تجد حارس العقار يسكن بجوارك في المجمع السكني نفسه بجودة الحياة نفسها، بينما قد يطالبك التلفزيون المصري، وفي قلب شهر الصوم والزهد، بأن تسارع إلى شراء الفيلا والشقة الفارهة، وفي اللحظة التالية يطالب المصريين عموماً بالتبرّع لإقامة مستشفى، أو دعم دور أيتام، في تخلٍّ تام للدولة عن دورها.

يهرب الأطباء والمهندسون والمهنيون، كما يهرب العمّال العاديون، بحثاً عن أجور عادلة وكرامة إنسانية لم يستطيعوا تحقيقها في بلادنا التي تعاني واحدة من أغرب الظواهر، حيث أطباؤها في الخارج أكثر من الداخل. ويكاد الوضع يكون شبيهاً في المهن الهندسية والتقنية، ناهيك عن العمّال المهرة. وهذا الوضع أقرب إلى الهجرات القسرية الاقتصادية، فلم يترك الوضع الاقتصادي المتردّي خياراً للمصريين، ففي غياب حكم القانون، وفي أحسن الأحوال، ضعفه، لا يأمن أحدٌ على مستقبله، ولو لم تكن له علاقة بالسياسة من قريب أو بعيد، يستطيع رجل أعمال مُدان بتهمة القتل العمْد أن يخرج من السجن معزّزاً مكرّماً، ويرتكب حماقات جديدة، ويغلق مشروعات لأناس من طبقته نفسها، كما حدث في إحدى قرى الساحل الشمالي، فلا القريبون من السلطة يأمنون على أنفسهم من هذا السياق، ولا الأعشاب في صراع الفيلة هذا تبدو آمنة.