النموذج الذي يقترحه بوتين
يتلاعب فلاديمير بوتين بأعصاب العالم بدم بارد، برودة ضابط المخابرات الذي لا يقيم وزناً لحيوات البشر عندما تدقّ ساعة "القضايا الكبرى". في كوكبه، قوة البلد تنبع من عدد الصواريخ والرؤوس النووية والدبابات، ولا تقاس بمستوى رفاه المواطنين وحرياتهم وصحتهم. حقيقة أن روسيا تناقص عدد سكانها مليون شخص خلال سنة واحدة بين خريفَي 2020 و2021 بفعل الهجرة وانخفاض الولادات وتراجع الأوضاع المعيشية للناس، هي مجرد تفصيل في عقيدة التوسّع والقمع والاستفزاز والتخريب والتصفيات ودعم كل طغاة الأرض، بهدف تحقيق ذلك الشعار الذي يغري كثيرين: تغيير قواعد النظام الدولي والتخلص من الأحادية القطبية الأميركية ليبزغ فجر التعدّدية. وبوتين في ذلك ليس حالة نادرة، ففي عز موجة الشعبويات، وانفجار الهويات الدينية والقومية، حكام كثيرون يحلمون بتغيير قواعد العلاقات الدولية التي تكرّس أميركا أقوى بلد على كل المستويات. لكن بوتين يجمع في شخصه مواصفات تحويل الأحلام إلى سياسة يومية: الشعبوية، امتلاك سردية شرقية تجمع إرثاً أرثوذكسياً وسوفييتياً في آن، التسلّط، الإمكانات المادية لثاني أكبر بلد مصدّر للنفط، السلاح النووي والاستعداد لاستخدامه، كره الغرب بصفته تجسيداً لليبرالية، عدم الاكتراث بكلفة سياساته على الشعوب، وشعبه أولاً، وأخيراً امتلاك عصابات مسلحةٍ هي جيوش خاصة رمزها شركة فاغنر، تنفذ لبوتين ما لا يستطيع فعله الجيش النظامي من مهمات قذرة. وحين تضاف إلى تلك اللائحة أزمة الديمقراطية ووهن الغرب بحكام يشهد لهم التاريخ بالضعف وتواضع الإمكانات والخيال، تصبح رؤية تظاهرات تحلف باسم "أبو علي بوتين" في أماكن مختلفة من العالم، أمرا لا غرابة فيه.
ما يفعله بوتين مع أوكرانيا اليوم (قضم أراضيها وتفريخ "جمهوريات" انفصالية وتأليب السكان ضد الحكومة المنتخبة ديمقراطياً وإلا اجتياحها عسكرياً لإزالتها عن خريطة البلدان المستقلة)، سبق أن مارسه بأشكال مختلفة في أماكن أخرى على حدود روسيا. جورجيا 2008، أوكرانيا (القرم) 2014، بيلاروسيا 2020، كازاخستان 2022. يدرك بوتين استحالة استعادة حدود الاتحاد السوفييتي، لكنه يؤمن بإمكانية جعل جميع البلدان القريبة من روسيا سليبة الاستقلال، لا مجال فيها لخيارات أو لميول ليبرالية قد تُفهم إعجاباً، ولو ثقافياً، بالغرب. ولما كانت أوكرانيا "دولة اخترعتها روسيا البولشفية الشيوعية"، مثلما قال مزهوّاً في خطاب يوم الاثنين، فإن مَن يعطي يأخذ، ثم إنّ الحكومة الأوكرانية عميلة لأميركا وسيتم التعامل معها على هذا الأساس، على ما ذهب بوتين. نسي أن يكمل العبارة: معروف حكم العميل، ومعلوم مصير البلد العدو.
عنوان منع تمدّد حلف شمال الأطلسي نحو الجوار الروسي يحمل، في طياته، ما لا تتسع له الكلمات: نحن في حرب وجودية مع الغرب. معاونو بوتين يعبرّون غالباً عما يضمره الرجل: الغرب، بكل منظومته القيمية الفكرية الحضارية، نكرهه. في خطابه الطويل ليل الاثنين، احتل هذا الغرب المرتبة الأولى في لائحة أعداء بوتين، ثم حلت أميركا تكثيفا لهذا الغرب. نحن مختلفون عنه وعن ديمقراطيته يقول رجال بوتين، وهم محقّون في ذلك، فذلك الغرب لا يملك ما يملكه حكام موسكو: تصفية المعارضين أو سجنهم في حال رأفت بهم السلطة، وتسليم حكم البلد إلى نخبة ضيقة جداً لصيقة بالحاكم ملاصقة الظفر للحم، والسماح بدور المعارضة لـ"الوطنيين" حصراً من أمثال الحزب الشيوعي الروسي، وإبادة الإعلام المستقل والحر، لا في روسيا وحدها، بل في كل مكان يفضح بعض ما ترتكبه روسيا أو جناحها الدموي، "فاغنر".
ذات يوم، وقبل اندلاع الأزمة الأوكرانية بوقت طويل، قال المعارض الروسي، الملياردير المنفي في لندن، ميخائيل خودوركوفسكي، إن على الغرب أن يحسم قراره: إما أن يستسلم في كل مكان حيث لفلاديمير بوتين مصالح، أو يُظهر استعداداً للرد على العنف بالعنف.
دع الغربيين وشأنهم، يا ميخائيل، إنهم مشغولون بصياغة العقوبات التي ستُسقط بوتين مثلما أسقطت بشار الأسد.