المنقلبون على "الدولة الوطنية" عندنا وعندهم
انطلقت في ألمانيا، قبل أيام، واحدة من أكبر المحاكمات في تاريخ البلاد الحديث، المُتّهمون فيها أعضاء خلية يمينية مُتطرّفة تُعرف بـ"خلية رويس" كانت تخطّط لتنفيذ إنقلاب عسكريّ في قاطرة الاتحاد الأوروبي. وأحدثت التّهم التي وُجّهت إليهم "صدمة في ألمانيا"، وهذه عبارة تتردّد بصياغات مُتقاربة في كلّ التغطيات الإعلامية تقريباً. وأفراد الخلية، الماثلون أمام القضاء، يؤمنون بنظرية "مواطني الرايخ"، ويقدّر منتسبوها بنحو عشرين ألفاً "لا يؤمنون بالدولة الألمانية في حدودها ومفهومها الحاليين"، بل قالت وزيرة الداخلية الألمانية إنّ المُتّهمين "مدفوعون بكراهية ديمقراطيتنا".
ومن الحقائق المثيرة للدهشة أنّ السيناريو الذي وضعوه لتنفيذ الهدف يكاد يتطابق مع مثيله الذي حاول تنظيم مصري أصولي مُسلّح عرف بـ"تنظيم الفنّية العسكرية" تنفيذه عام 1974. وقد أجريت، قبل سنوات، حوارات عديدة مع طلال عبد المنعم الأنصاري (أحدها حوار تلفزيوني)، وقد كان من قياديي التنظيم. وقد أكّد لي أنّ الطبيعة الاستبدادية لـ"الدولة الوطنية" في العالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وانسداد طريق التغيير السلمي، أسهما بقوّة في إقناعهم بحتمية الانقلاب العسكري. والمهمّ هنا ليس موضوعية الدفوع والدوافع، بل انتقال حالة الرغبة في الانقلاب على "الدولة الوطنية" من جنوب العالم إلى شماله. فلماذا يظهر منقلبون على "الدولة الوطنية" في برلين؟
وخلال مواجهات ما بعد "الربيع العربي"، كان شعار "الدفاع عن الدولة الوطنية" أحد أهمّ شعارات مُعسكر "الثورة المضادّة". والتشابه والاختلاف بين حالتين، إحداهما حالة رفض "الدولة الوطنية" والأخرى حالة الخوف عليها، كلاهما يعكسان أزمة تعانيها هذه الصيغة في الاجتماع السياسي، وللظاهرة وجوهٌ مشابهةٌ في أفغانستان تحت حكم حركة طالبان، وفي مساعي اليمين الديني الإسرائيلي لتأكيد "يهودية إسرائيل".
خلال مواجهات ما بعد "الربيع العربي"، كان شعار "الدفاع عن الدولة الوطنية" أحد أهمّ شعارات مُعسكر "الثورة المضادّة"
وتصورات الدولة المأمولة أو الـمُتخيَلة هنا وهناك متباينة، ومرجعيّتها النظرية ليست واحدة، لكنّ المشترك الرئيس شعور بالرغبة في التغيير الجذري، والرغبة في القطيعة مع قرون عدّة من الانتشار الواسع عالمياً لهذه الصيغة في الاجتماع السياسي. وفي الحالات المذكورة جميعاً، هناك رغبة في رابطة مغايرة للمواطنة، وحنين إلى صفحة من الماضي (في التاريخ الديني أو العرقي)، ومن الخطأ الاكتفاء بالتعامل الأمني مع مشكلة لها جذور معرفية، وتقرع جرس إنذار لتحوّلٍ قد يكون عودة إلى ما قبل "صلح وستفاليا" (1648). والطبيعة التعاقدية لـ"الدولة الوطنية" الحديثة لا تقوم على فوقية عرقية ولا على اصطفاء ديني، لكنّها أحيانًا هدّدت ما يعتبره المُنقلبون مرجعية (الدين، القومية، الهوية)، بحيث تحوّلت من أساس "مُحايد" للتنظيم السياسي، خالٍ إلى حدّ كبير من الانحيازات العقائدية والأخلاقية المُسبقة، وهي انحيازات يُخشى دائمًا من أن تقسّم مجتمعات المحكومين، إلى أداة لتغيير معالم حياة المواطنين بأدوات القسر الخشنة أو الناعمة.
وأحد أهم الوجوه الجديدة للفوقية التي تهدّد "الدولة الوطنية" يشمل كلاً من فوقيّة عولمية تهدّد التعددية تحت شعار حمايتها (تذكر هنا معركة محاولة فرض شارات المثلية الجنسية في مونديال قطر 2022)، وفوقيّة مالية عالمية عابرة لحدود الدولة (تذكر هنا مهزلة الأزمة المالية العالمية 2008)، وفوقيّة سلطوية، حوّلت بعض الديمقراطيات إلى أرستقراطيات شبه رجعية، تحت قشرة ديمقراطية (قارن بين سلوك أعضاء الكونغرس الأميركي وثورات طلاب الجامعات)، وفوقيّة أيديولوجية جديدة تجعل الصهيونية حقيقةً وجوديةً عالميةً (تشهد برلين وواشنطن سيلاً من التشريعات الصادمة).
وهذه الفوقيات تعمل (أحياناً مُنفردة وأحياناً متساندة) بكلّ أدوات القسر والإغواء لتغريب العالم مدّعيةً تحديثه. ومع انطلاق المحاكمة المشار إليها في برلين، من المنطقي أن نقرّر أنّ نسبة كلّ الشرور، التي تهدّد حداثة العالم إلى الأصوليات الدينية، قفز على حقائق العالم المُتعيّن. والإلحاح على هذا التفسير الأحادي هو هروب من حقيقةِ أنّ الاجتماع السياسي، في الشمال والجنوب، يواجه أزمة. والتاريخ أكثر تعقيداً وتركيباً، بكثير، من اختصاره في أيقونات سرعان ما تتحوّل إلى "صور نمطية" تنتشر من دون تدقيق، والخوف على الحداثة ودولتها الوطنية لا يمكن أن يكون مُبرّراً لإنكار أنّها إطار لتنظيم السياسي، له نجاحاته وله إخفاقاته، وأنّ من حقّ أمم أخرى وثقافات أخرى أن يكون لديها إطار تنظيم سياسي مُغاير.