الممانعون الأميركيون واجتياح أوكرانيا

30 يونيو 2022
+ الخط -

السجال دائر على الشبكة بين اليساريين الأميركيين عن اجتياح أوكرانيا. وانقسامهم لا يختلف كثيراً عن انقسامنا. ولا عجب. فكلّ من كانت أولويته قبل هذا الاجتياح مناهَضة الإمبريالية الأميركية، وقفَ مع بوتين؛ بكلّ "الحزن" الواجب أمام دمار أوكرانيا. وهذا الحزن مقدّمة "إنسانية" لا بد منها عندهم. ومهما أطال واحدهم من الأضرار اللاحقة بأوكرانيا نتيجة هذا الاجتياح، ومهما تلوّع على ضحاياه... تأتي تلك اللحظة التي يطلق فيها "لكن" الشهيرة، وخلفيتها جملة واحدة قالها الفيلسوف الأميركي، نعوم تشومسكي، وقوامها: "اجتياح روسيا أوكرانيا جريمة بالغة، مثل الاجتياح الأميركي للعراق، لكنّ الأزمة كان يمكن تجنّبها منذ خمس وعشرين سنة، لو لم تهمل أميركا، بكثير من الاحتقار، القلق الروسي في المجال الأمني".

أوجد تشومكسي معادلة التحفّظ الممانع بهذه الـ"لكن". وعلى أساسها انقسمت "بنية" الموقف الأميركي الممانع إلى اثنين: في الأول، يتفجّع على ضحايا الحرب الأوكرانية، يمرِّر حبّه السلام، ولا ينسى في طريقه ذنوباً سابقة للإمبريالية الأميركية. وفي الثاني، ينقضّ على أميركا، أنّها عملت وفعلت بحلف شمال الأطلسي (الناتو) ما لم يفعله الشيطان. وأخيراً تلك التمريرة اللبِقة، حول "احتقار" أميركا "القلق" الروسي. أي إنّ روسيا تستحق "كلّ الاحترام".

ماذا تستنتج من جملة تشومسكي، وقد تحوّلت إلى لازِمة لا بد منها، مهما استطالت آراء الأوفياء لفلسفته، ومهما اختلفت صياغاتهم؟ ثلاث نقاط أساسية:

أُولاها، أنّ المخيّلة المستوطنة في عقل الممانع الغربي مأخوذة بالجيوسياسة أكثر من اللزوم. معه، خرجت الجيوسياسة من دوائر القرار، وصارت من اختصاص كلّ من يسْتأنس بحرب بوتين على أوكرانيا. وكلّ الموضوع عنده أنّ روسيا منزعجة من تقدم "الناتو" على حدودها الغربية. ومكائد "الناتو" معروفة تاريخياً، إنّها خيوط عسكرية بقيادة الأميركيين. إذاً، الحرب الدائرة في أوكرانيا من حقّ بوتين، لأنّه بذلك يدافع عن "مجاله الحيوي". ردود اليساريين الأميركيين غير الممانعين على هذا "التفسير" للحرب لا ينبض. يغوصون في تاريخ "الناتو"، ويفصلون المراحل والمواقف إلخ، من دون أن يقتصر منهجهم على الجيوسياسة. وهم أيضاً يعبّرون عن عدائهم تجاه الإمبريالية الأميركية. وفي خضم هذا السجال، يذكر أحدهم أن مفهوم "المجال الحيوي" أي قاعدة التفكير الجيوسياسي، هي من اختراع هتلر. "المجال الحيوي" لهتلر كان أوروبا الشرقية في البداية. كان يراها حقاً طبيعياً لألمانيا، تعويضاً عن احتكار البريطانيين والفرنسيين الاستعمار في آسيا وأفريقيا. وأيضاً، بداية لاستعادة المجد الألماني الضائع، بعد هزيمته في الحرب العالمية الأولى. ويتابع أولئك اليساريون غير الممانعين بأنّ بوتين إنما يناور بإرث هتلر، أي "النازية". فتارّة تكون مبرّراً لاجتياحه أوكرانيا، لأنّها "نازية". وتارة أخرى يلهمه "المجال الحيوي" المفهوم النازي بامتياز، وهو أثقل حججه. حجّة من النوع التي تخرس خصمها، أو تفترض كذلك.

الممانعون الأميركيون، ومعهم معظم الغربيين، يتعامون عن أحد المبادئ "التأسيسية" ليساريتهم: حق الشعوب بتقرير مصيرها، مهما صغر حجمها وحضورها

النقطة الثانية: روسيا من "الكبار"، من "عزيز قوم ذُلّ". يجب "احترامها" يقول تشومسكي. ولا يقول السبب. تلامذته يفصّلون. بعضهم يعتمد على حنين أيامٍ مضت، عندما كان الاتحاد السوفييتي "صديقاً للشعوب"، و"نموذجاً اشتراكياً". وكلّ انجازات روسيا "المحترمة" لا يجب أن تُنْسى. وهؤلاء أقل المُمَجِّدين ضَرَراً. الآخرون يسردون في تاريخ روسيا المجيد، الذي لا يتضمّن غير توسيع حدودها، ونزوعها إلى التمدّد غرباً، بعدما استوفت شرقها ببلوغها المحيط الهادئ. القياصرة، تقاليد القتال، العظَمة... "كانت" روسيا هي الأغرّ دائماً.. وهي الآن، عشيّة اجتياحها أوكرانيا متعذِّبة من أنّها لم تعُد قوة عظمى كما كانت. وبناءً على هذه الرغبة، هذه الحاجة الملحّة، تستحق روسيا مزيداً من الحدود، فيما هي أكبر الدول مساحةً (الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحمل اللوثة نفسها، إذ يدافع عن "كرامة" بوتين، ويحذّر من أنّه يجب "عدم إذلاله").

النقطة الثالثة في هذا السجال الأنغلو ساكسوني، هي الإمبريالية الأميركية شرّاً أبدياً وثابتاً حتى نهاية الزمان. وكلّ من يتصدّى لها هو أوتوماتيكياً من معسكر الخير. أي، بما أنّ الذي يحصل الآن في أوكرانيا هو صراع "جيوستراتيجي" بين أميركا وروسيا، فإنّنا نقف ضد الإمبريالية الأميركية، الخالدة. ثم إعادة التذكير بجرائم هذه الأخيرة: اجتياح أفغانستان والعراق، وقبلهما فيتنام وكمبوديا، إسقاط أنظمة ديمقراطية، دعم ديكتاتوريات عسكرية رجعية استغلالية، إلخ. أميركا فعلت هذا كله. وكلّ من يقف بوجهها هو خير مطلق. لا يتلفظ ممانعونا الأميركيون بهذه العبارات بالذات. يتركون خصومهم ليقولوا كم هي جوهرانية تلك الصفة التي يُلصقونها بالإمبريالية الأميركية. وكأن إمبريالياتٍ لم تسبقها، وإمبرياليات أخرى لا تنافسها، أو ستلحقها. ويضيفون أنّ الشرّ والخير يختلطان في أوكرانيا. أنّ أميركا الشرّيرة تدير حرباً ضد روسيا الشريرة.. وفي كلّ الأحوال، يضيفون أنّ المسألة في مكان آخر: في أنّ شعباً بعينه يكافح بالسلاح لطرد الاحتلال الروسي، وكفّ يد بوتين عن تقرير مصيره.

لا تستطيع أن تؤيد شعوباً هنا وتتجاهل شعوباً أخرى هناك

هكذا يشتبك "المجال الحيوي" مع "الشرّ الأميركي الأبدي" و"إرضاء الغرور الروسي"، ليخرج ذاك الموقف العملي، لا "التحليلي" وحسب: نحن مع روسيا، مهما غلطت الأقنعة "الإنسانية" والسلمية المعادية للحرب ولكلّ الحروب... "المجال الحيوي"، "الشر المطلق"، "العظَمة المستعادة": ثلاث لوازم (جمع لازِمة) تعتمدها مرْوحة من الحركات والشخصيات والأحزاب، تحمل كلّها بصمة هلاك. من أسامة بن لادن صاحب "الفسطاطَين" خيره وشرّ أعدائه، والشياطين الكبيرة والصغيرة، ومحاور الشرّ.. واستعادة المجد الإسلامي العتيد، إلى هتلر، زعيم النازية، وذريعة بوتين في آن واحد، إلى أحزاب اليمين المتطرّف الغربي التي لا تختلف حججها عن تلك التي يطرحها ممانعو الغرب هؤلاء، فيؤيدون بوتين ويعجبون بقدراته، ولا ينظرون إلى الشعب الأوكراني إلّا رفعاً للعتَب.

ونقطة واحدة غابت عن هذا السجال: الممانعون الأميركيون، ومعهم معظم الغربيين، يتعامون عن أحد المبادئ "التأسيسية" ليساريتهم: حق الشعوب بتقرير مصيرها، مهما صغر حجمها وحضورها. فيتنام، فلسطين، ايرلندا، كوبا... شعوب العالم المقهورة، فعندما يؤيدون شعوباً تكافح الإمبريالية الأميركية، ويصدّقون على إمبريالية أخرى، تعتدي على شعوب أخرى .. فهذا يعني واحداً من اثنين: إما أنّهم غير عادلين، يكيلون بمكيالين، بوعي أو من دونه، أو أنّهم أصدقاء "موازين القوى" وبوتين في نظرهم قوي. وسينتصر، حتى لو هُزِم. وسيفرض السردية التي تعجبه. من أنّ الأوكرانيين كانوا جواسيس، فحرّر بوتين أوكرانيا منهم.

لا تستطيع أن تؤيد شعوباً هنا وتتجاهل شعوباً أخرى هناك. وإلّا فستستحق يوماً ما درساً .. لكن ما النفع؟ ربما لن يكون هناك درس بالنسبة إليك، ولا من يحزنون... طالما أنّ القضية ليست بالحجج والبراهين، إنّما بـ"موازين القوى على الأرض"، حيث بوتين هو المنتصر الأكبر حتماً، مهما أخفقَ.