الملامح الأولى للشرق الأوسط "المختلف"
بالرغم من إقرار أمين عام حزب الله اللبناني حسن نصر الله بأنّ الحزب تلقّى ضربة قاسية، بما لم يشهد له تاريخ "المقاومة" في لبنان مثيلاً، ولا لبنان، وربما العالم بأسره، لطبيعة (ونوعية) الهجوم الغامض الذي أدّى إلى قتل عشرات الأفراد وإصابة الآلاف، إلاّ أنّ الأهم في خطابه أنّه لم يعلن الاستسلام أو التراجع، بل أكّد استمرارية ما توصف بـ"حرب الاستنزاف" التي يشنّها الحزب في شمال إسرائيل من جهة، وتماسك ما يسمى "محور المقاومة" من جهةٍ ثانية.
"مجزرة البيجرات" مؤلمة جداً، لكنها تأتي أيضاً بعد عمليات نوعية أخرى وخطيرة، مثل اغتيال فؤاد شكر وإسماعيل هنية وصالح العاروري، وبوسائل متعدّدة، لكنها تكشف أنّ إسرائيل تسعى إلى تصميم معادلة ردع جديدة تقوم على التفوق التكنولوجي العسكري، بعدما أدرك قادتها أنّ المعادلة التقليدية للردع والأسلحة التقليدية لم تعد كافية أمام التطوّر في مجال الصواريخ والأسلحة الحديثة التي أصبحت بحوزة "محور الممانعة".
واضحٌ أنّ هذا الإدراك (الإسرائيلي) ليس جديداً، إذ لاحظ الجميع الاهتمام والعمل الدؤوب الإسرائيلي والصهيوني عموماً على تطوير القدرات التكنولوجية في مجال الذكاء الاصطناعي والحروب السيبرانية. وبالنظر إلى حجم قطاع التكنولوجيا في إسرائيل؛ فإنّه من القطاعات الحيوية في الاقتصاد الإسرائيلي، ويحظى بنسبة كبيرة من الاستثمارات، كما يسهم، بشكل فاعل، في الناتج المحلي الإجمالي والتنمية الاقتصادية، ووفقاً لبيانات بنك إسرائيل، يشكل هذا القطاع نحو 16% من إجمالي العمالة، وأكثر من نصف صادرات إسرائيل، وثلث ضرائب الدخل، ونحو خمس الناتج الاقتصادي الإجمالي. وتقول الوزارة إن القطاع التكنولوجي في إسرائيل شهد أسرع وتيرة نمو خلال العقد الماضي، نتيجة زيادة حجم صادراته وعدد موظفيه وزيادة إنتاجيته.
أهم من ذلك أنّ رؤية إسرائيل إلى هذا القطاع لم تنطلق من اعتبارات اقتصادية فقط، بل بوصفه جزءاً من الأمن القومي والتفكير الاستراتيجي والمستقبلي والنفوذ العالمي الصهيوني (كما حدث مثلاً مع برنامج التجسّس بيغاسوس)، إذ إنّه مبنيٌّ على استثمارات وأبحاث وتعاون استراتيجي مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ولذلك استطاع تجنّب مزيد من الخسائر خلال فترة الحرب، وهو يتمتّع ببنية صلبة وقوية وإيمان من المؤسّسات الإسرائيلية به، إذ تُنفق إسرائيل نحو 4.3% (من الناتج المحلي) على قطاع التكنولوجيا والبحث العلمي، كما أنّ رجال الأعمال الذين يشاركون في دعم هذا القطاع مؤمنون بإسرائيل ويدعمونها بشكل كبير، وربما زادوا من استثماراتهم خلال الحرب دعماً لها.
المقصود أنّ إحدى أهم الحقائق الجديدة التي كشفتها الحرب على غزّة وتبعاتها الإقليمية أنّنا أمام "جيل جديد" من الحروب، بل من الديناميكيات المفتاحية في تأطير مستقبل المنطقة، وفي مقدمة ذلك، طبيعة الحروب التي تغيّرت وأصبح الذكاء الاصطناعي والروبوتات والحروب السيبرانية والتكنولوجيا الفائقة والمسيّرات جزءاً رئيسياً منها، ولا نعلم إذا كانت هنالك أمور لم تتكشّف بعد لدى الإسرائيليين، وهذا تطوّرٌ خطيرٌ جديدٌ على صعيد تعريف منطقة "الشرق الأوسط" خلال المرحلة المقبلة.
على الطرف الآخر من المعادلة؛ ما أكّده خطاب حسن نصر الله أنّ حلف الممانعة موجود ومتماسك، وهو، وإن يستند في شقه الأكبر إلى الجانب الطائفي والمركزية الإيرانية، فإنّه، في المقابل، أخذ مكان النظام العربي سابقاً (جمال عبد الناصر، حافظ الأسد ثم صدّام حسين) الذي كان يمثّل رأس الحربة في الصراع العربي الإسرائيلي، وأصبح النظام الرسمي العربي، بالكلية، خارج إطار الصراع، ومن دون أن يكون هنالك تصوّر استراتيجي واضح يجمع أطرافه الرئيسية، فالعراق يمثل اليوم بالحشد الشعبي- إقليمياً، وليس عبر الدولة بصورة رسمية، وسورية تمثّل بوصفها امتداداً للنفوذ الإيراني (وينأى النظام بنفسه حتى عن أي تصريحٍ له علاقة بالحرب على غزّة)، ولبنان عبر حزب الله واليمن عبر الحوثيين. أما الدول الأخرى الرئيسية، مثل الأردن ومصر، فهي تتعامل مع مخرجات الصراع وليس مدخلاته، بينما اللاعبون الجدد، السعودية والإمارات وقطر، لم تدخل أدوارهم في حيّز المجال الاستراتيجي في التأثير على مخرجات الصراع أو مدخلاته!
الوجه الجديد للمنطقة، الذي تحدّث عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يكشف عن أول ملامحه من خلال التكنولوجيا الحديثة والتحول الجديد في الاستقطاب الإقليمي، بانتظار معرفة نتيجة الانتخابات الأميركية التي ستكون هي الأخرى متغيراً مهماً في تحديد إلى أين ستتجه الأمور في المنطقة في العام المقبل.