المقاربة الأردنية في "الانتقال السياسي"
يشهد الأردن حراكاً سياسياً هادئاً، وراء الكواليس، على أكثر من مستوى، منذ تمّ تسليم مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية للملك في بداية الشهر الماضي (أكتوبر/تشرين الأول)، بعدما تأكد الفاعلون السياسيون، الرسميون وغير الرسميين، أنّنا هذه المرّة أمام تحوّل جدّي في تصميم قواعد اللعبة السياسية باتجاه تنشيط العمل الحزبي وتطويره وتوسيع قاعدة المشاركة في صنع القرار.
ستتزامن التحضيرات الحالية مع انطلاق ورشة عمل هائلة على مستوى البلاد والعباد، تتضمّن تأسيس دائرة في الديوان الملكي (كما ذكر رئيس اللجنة الملكية سمير الرفاعي) لمتابعة توصيات اللجنة ومخرجاتها، والتأكد من تطوير عمل الأحزاب وقدراتها لاستقطاب جيل الشباب، ذكوراً وإناثاً، وفي الوقت نفسه، على الشباب كسر الحواجز النفسية والثقافية بينهم وبين العملين، السياسي والحزبي، ومن ذلك المخاوف المشروعة من التداعيات الأمنية لأي نشاط سياسي.
قد تبدو المقاربة الأردنية في الانتقال السياسي مغايرةً لتجارب الربيع العربي، ولتجارب عالمية في التحول والانتقال الديمقراطي كثيرة، بل هي أشبه (التجربة الأردنية) بـ"الهندسة السياسية"، ولكن ليست على الطريقة العربية التقليدية (الوصول إلى النتائج مسبقاً والتحكّم في الانتخابات)، بل بالوصول إلى تطوير العملية الديمقراطية الداخلية، بمحدّدات واضحة وبمسار آمن، وبالابتعاد عن المخاوف، مما يعتبرها محافظون كثيرون قفزة في المجهول، وهي المخاوف التي حالت، خلال العقود السابقة، دون التوغل في مسار الديمقراطية، خشية من النتائج غير المتوقعة!
لم تأتِ المقاربة الأردنية نتيجة ضغوط داخلية شعبية شديدة، ولا نتيجة إطاحة نظام الحكم القائم، كما حدث في دول عربية أخرى، ولا نتيجة "صفقة" بين المعارضة والنظام، كما حدث في بعض تجارب التحول الديمقراطي في أوروبا، خلال العقود السابقة، بل جاءت بدرجةٍ أقوى بقناعة بدأت تكبر وتتعمّق في أوساط القرار في عمّان بأنّ الانتقال السياسي والإصلاح هو ضرورة للنظام السياسي بدايةً، خاصة بعد مجموعة من الأزمات الداخلية وعدم نجاعة مقاربة "الاقتصاد أولاً" والنضوب المتواصل في نخب "رجال الدولة" في الأردن.
التحدّي الحقيقي أمام هذا السيناريو من الانتقال السياسي يتمثّل في مدى قدرة المشهد الحزبي على إحداث قفزةٍ نوعيةٍ كبيرةٍ خلال ثلاثة أعوام فقط، كي يكون هنالك عدد محدود من الأحزاب السياسية القوية الفاعلة، لكل منها برنامج ورؤية سياساتية تتنافس فيما بينها على ملء ثلث مقاعد مجلس النواب المخصص للأحزاب السياسية، وعلى المقاعد الأخرى في المحافظات.
هذه الأعوام الثلاثة مهمة للغاية، بل هي امتحانٌ حقيقيٌّ، فإمّا يتعزّز الاتجاه داخل الدولة الذي يرى أنّ إمكانية الانتقال نحو نظام حزبي تعدّدي برامجي معتدل قائمة، وبالتالي يتم الاستمرار في برنامج الانتقال نحو تعزيز مقاعد الأحزاب وتوزيعها في الدورة البرلمانية التالية لتصل إلى 50% ثم 70%، وإمّا تتغلب المعوقات والمخاوف والخلافات ونعود مرّة أخرى إلى المربع الأول، والعجز عن إحداث انتقالٍ آمن في المسار الديمقراطي.
فرس الرهان في المعادلة هم جيل الشباب، لأكثر من سبب؛ الأول، أنّ تغيير المشهد الحزبي لن يتم إلاّ عبر ضخّ دماء جديدة من الشباب المتمكّنين من أدوات الاتصال السياسي الحديث، وهذا يقتضي تطوير قدرة الأحزاب على التعامل مع الشباب وهمومهم وقضاياهم، وتصعيد نخب من القيادات الشبابية في الأحزاب السياسية. الثاني، أنّ جيل الشباب اليوم هو الجيل الأكثر تأثراً بالظروف الاقتصادية، وهو العمود الفقري في الاحتجاجات الشعبية في الشارع، ومن الضروري في أيّ مشروع سياسي فتح الأبواب له ليلج إلى العملية السياسية والمشاركة فيها والاقتناع بأنّ التغيير المعتدل الهادئ في بنية المؤسسات السياسية ممكن، وليس مستبعداً كما كانت الحال سابقاً.
إذا سارت المقاربة الأردنية على الطريق الصحيح، وحقّقت نتائج واضحة، وبخطوات ثابتة، سنكون أمام تجربة عربية مهمة ونوعية، والعكس صحيح.