المعركة مع الشيخوخة غير متكافئة

29 يوليو 2021

(لؤي كيالي)

+ الخط -

مع الشيخوخة، يتكوَّم جسمكَ على بعضه. يتعب، يمرض، يفقد إرادته. ثقيلٌ وحاضرٌ كل لحظة، هذا الجسم يستبدّ بكَ، وينذركَ بأن عليكَ تغيير عاداتك القديمة في الطعام والشراب والسهر والجلوس والانحناء.. كلهم مشوا طوال سنوات على هذه العادات، عليكَ أن تغيّرها الآن، أن تتمرّن على تغييرها. بنظام جديد، وروتين يومي. لو خالفته.. ليتكَ تموت ميتة هيّنة. إنما تتعذّب، تتألم، ترقد في الفراش، والطبيب والمستشفى والعقاقير... كل هؤلاء يهجمون عليك بما تيسّر من ضراوة، لتنْبيهك. إياك واللحمة! أو الخبز، أو البطاطا المقْلية.. أو أيّ من تلك الملذات التي كانت بالأمس عادية.

أيضاً، بهذا التكوّم، تخسر حُسنَكَ ونداوتك وجاذبيتك. تخط التجاعيد وتتعمَّق شيئاً فشيئاً. يتهدّل وجهك، يتبهْدل. وأحيانا تصير شخصاً آخر، لا تعود تشبه نفسك. وجهك يضيع وجسمك معه، الذي لم يَعُد جسداً، إنما كياناً بيولوجياً يفْلت منك، لا يصغى إليك. يتصرّف على هواه. يسقط، يتهاوى. جاذبيةٌ ما في الأرض التي تدعس عليها تشدّه بقوةٍ خفيةٍ إلى تحت. جاذبية خبيثة، تنزِل وجهك، وبطنك وصدرك وكل ما يمت بصلة لعضلاتكَ. وحده "كرْشكَ" يرتفع، يسبقك إلى مواعيدكَ. ولو كنتَ رجلاً، يراضيك صحبك بوصفه بـ"كرش الوجاهة". فالوجاهة لا تُفنى، هكذا بضربة الأيام. ليست شِفاهاً ولا عضلات.

في العقل، في الوجدان، الوقت ليس لصالحكَ. لم يعد أحدٌ يقول لك "أمامكَ السنوات..."، أو "أنتَ شخص واعِد" للتشجيع أحياناً، أو لإخراجك من إحباط ما. الآن، صرتَ على المقْلب الآخر. كم بقي لك من السنوات؟ عشر؟ خمس عشرة، على الأكثر؟ ماذا عساكَ أن تستبدل، أن تصحّح، مساراً أو مهنة أو فكرة أو صداقة أو مجرّد هواية وترفيه؟ وجميعها تحتاج إلى وقت، لتتعلّمها أو تعتاد عليها.

والآن، تغيرت طبيعة الوقت. تبخَّر المستقبل، طارَ بغمْضة عين. وحلَّ الماضي مكانه، سكنَ في حديقتك الداخلية. أحداثٌ سعيدة وبائسة، تفاصيل تهجم عليك، ترمِّم وقتك، تملأ الفراغ الذي استوطن في مستقبلك. حسناً، يقول عقلكَ نصف الباطني، كارِه الفراغ، إن لم يكن ثمّة مستقبل، فليكُن الماضي. ولكن بما أنك أصبحتَ شيخاً، صرتَ بالتعريف مهدَداً بالخَرف، بالنسيان .. تكون تمارين التذكر مثل تعلم الكتابة أو القراءة في بداياتهما. فيتعكّر مزاجك، وتسْوَدّ الدنيا بوجهك، وتكون العَتْمة. ويصف لك الطبيب تلك الحبوب الخاصة باكتئاب الكَبَر.

عندما شختَ، وصار مطلوبا منكَ أن تبذل المزيد من الجهود، لم تعد تملك الطاقة على شحنها ولا إدارتها

اللذة، آه اللذة. أن تصطاد اللذة مثل مراهق لم يعرفها. شهوتك عظيمة. ولكنك لا ترغب. تودّ أن ترغب، أو أن ترغب الرغبة. أي رغبة .. أو تلوذ إلى البشر، إلى الناس. ولكن هؤلاء لا يرحّبون بكَ. وإذا كانوا من الشيوخ، أو لم يكونوا، فأنتَ تثير لديهم الضجر والنفور. كلاهما يتجنّبكَ. الشيوخ لأنكَ المرآة المحطَّمة التي يودّون تناسيها، والشباب لأنهم يخشوْن أن ينتهوا كما ينتهي وجهكَ وجسمكَ. ثم إنكَ لا تغنّي، لا تشرب، لا ترقص، لا تمزح، لا تنفع بأي صلة من تلك الصلات المسمّاة "اجتماعية"... فبماذا نفوز إذن من وجودك بيننا؟

وأنتَ هنا أمام حلّ من اثنين، في ما يخص أمنياتك. أمنيات فقط، تعرف أن لا شيء يدلّ على إمكانية تحقيقها: فإما تتمنّى أن تموت في هذه اللحظة بالذات، لكي لا يسبقكَ أحباؤكَ ومُجايلوك، فترتاح من هوس أن تموت وحيداً، مشغولاً بالذين رحلوا، تبكي عليهم، بدموعٍ وبغيرها. أما الأمنية الثانية، أن تتمنّى، مثل كل كائن حيّ، أن تبقى على قيد الحياة، ولو معلولاً. لأنك لو رحلتَ الآن، سوف تشتاق للشروق، للبحر ورائحته، لخضار الأشجار وتبدّل الفصول.. وهذه كلها ملذّاتٌ ما زلت تتدرّب على حصْريتها، تعويضاً عن الممنوعات.

كل هذه الجهود المطلوب منكَ بذلها، إذا أردت أن لا تتبَهدل إلا قليلا في شيخوختك، كل هذه الجهود العقلية، المعنوية، الجمالية، الحسية .. إلخ. أنتَ، بحكم الشيخوخة نفسها، لستَ قادراً عليها. لأن طاقاتكَ تراجعت، ومعها خيالكَ وذاكرتكَ وتركيزكَ ومزاجكَ، وحيويتكَ. وكلها من نتاج الصِبا، لا الشيخوخة. وعندما تصل إلى تلك الأخيرة، تنتبه إلى تلك المفارقة الهائلة: من أنك في شبابكَ، عندما كانت كل مواردك متوفِّرة، لم يكن مطلوباً منكَ مجاهدةً تفوق قدراتك، إلا إذا كنت منحوساً، ملعون الحظ. وعندما شختَ، وصار مطلوبا منكَ أن تبذل كل هذه الجهود، لم تعد تملك الطاقة على شحنها ولا إدارتها.

ولا حاجة للتذكير بأن هذه "الحالة" تتضاعف وطأتها عندما يتعلق الأمر بالنساء والفقراء. النساء لأن الشيخوخة تصل باكرا إليهن، ويعشن أكثر من الرجال، فتكون شيخوختهن أطول، ولأن مظاهرها أشدّ وطأة عليهن. فـ"جمال" النساء "رأس مال" لا ريب فيه. ليس مطلوبا من الرجال قدره. هم يتمتعون، قبل الشيخوخة بـ"جمال روحهم". و"جمال الروح" هذه، عندما تطبَّق على النساء، يكون القصد الهزلي منها انتفاء جمال صِباهن.

لا تتَصابى ولا تسْتشْيخ. ولا تقترب أبداً من تلك "البيوت" أو الملاجئ التي اخترعتها المجتمعات الحديثة الغنية، من أجل إيواء الشيوخ

أما الفقراء، فلأنهم ولدوا شيوخاً، يخوضون معارك غير متكافئة منذ دهر. والغني من بين الشيوخ، أكان نجماً لامعاً أو سياسياً أو مليونيراً... أو مليارديراً، فعندما يشيخ، يستطيع التعويض عن قلّة جاذبيته الحميمة بسطوع أضوائه وسحر سلطته المشهودة. ثُلاثي المال، الشهرة، و"الفن التلفزيوني"، كلها اجتمعت عند رمزٍ من رموز التاريخ المعاصر، دونالد ترامب، الرئيس الأميركي السابق، الذي تمكّن من التي تصغره بأربع وعشرين سنة، بمقايضةٍ لا ريب فيها بين شبابها وبين كل ما يتحلّى به زوجها العجوز.

مع أن للشيخوخة حَسَنات. أشهرها، أنك عمّرتَ، أي أنك لم تمُت، أي أن الخيار الوحيد المطروح عليك هو الموت أو الشيخوخة. يعزّيكَ بعضهم بأن تأخر موتكَ "شطارة" أو"مكابدة"، فيما هي مصادفة وحدها، لا تنفع معها العادات الصحية والتمارين الرياضية. لا جميل لكَ بالبقاء على قيد الحياة.

من هذه الحَسَنات أيضاً، أنك لم تَعُد في وارد أن تكون إلا أنتَ. لا الهمّة، لا الوقت، ولا بعض الحِكمة والنَظَر.. تسمح لكَ بالتسمّر في متاهة أن لا تكون أنتَ، أو تحاول أن تكون غيركَ. وحتى لو عاندتَ وأنكرتَ أثر الشيخوخة، وأصررتَ أن تكون فلاناً آخر، فشيءٌ غير مفهوم، ربما الجينات، يعيدكَ إلى أمك أو أبيك أو خالتكَ أو عمّتكَ. تأخذ من ملامحهم ما يمحي أثر الشخصية الأخرى التي حاولتَ أن تكونها طوال عمركَ.

للشيخوخة حَسَنات، أشهرها، أنك عمّرتَ، أي أنك لم تمُت. أي أن الخيار الوحيد المطروح عليك هو الموت أو الشيخوخة

الحسَنَة الأخرى، أنك، بالشيخوخة، ختمتَ معرفة كل الأعمار. أي أنك خزينٌ من الحكايات التي قد تضيع هباء. ويحسُن بك أن ترويها، لمن تشاء. ليس للآذان التي ملّت مواعظك وحكمِكَ البائتة، إنما لآذان محبة للحكايات، هي ذخيرتك. حتى وهي متقطّعة، منثورة هنا وهناك في زوايا ذاكرتكَ. وتبقى هكذا على صلةٍ مع غير مجايليك من شباب وراشدين ومراهقين وأطفال. تعلّمهم الحكايات، ومنهم تستلْهم تذوق طعم الخفّة والبهجة.

لا تتَصابى ولا تسْتشْيخ. ولا تقترب أبداً من تلك "البيوت" أو الملاجئ التي اخترعتها المجتمعات الحديثة الغنية، من أجل إيواء الشيوخ. فهي مؤسساتٌ بيروقراطيةٌ، جافّة، تعامل الشيوخ كما لو كانوا وزْراً، كما لو كانوا أطفالاً بلا مستقبل. ومهما بلغت درجة رُقي هذه البيوت. حيث توصف بالمكان الذي "يشجّع النزلاء بعضهم بعضا على تثبيط عزائمهم".... الحداثة طوّلت العمر. وبفخر. لكنها عاملت طويلي العمر بصفتهم بنوداً في البرامج والوعود الانتخابية، تناقَش ميزانيتهم في البرلمان. وهي "بيوتٌ" فرضها انحلال الأواصر العائلية، وتبعثرها.

لا تقترب من هذه المؤسسات عندما تشيخ. ابق بين عائلتكَ وأحبائكَ وأصدقائكَ، الراشدين منهم والرضّع. هؤلاء أغنى لنهايتك وأبقى وأرحم. حتى لو شابَهم تقصير، أو ضجر .. الربع الأخير من العمر يحتاج إلى حب. إلى حب فقط.