المعركة في إيران معركتنا أيضاً
عشيّة الثورة الإسلامية، كان الشاه قد منعَ الحجاب، شجّع البنات على التعلم، سنّ بعض قوانين حضانة الأمهات أطفالهن.. ولكنه لم يرفع يد رجال الدين وشريعتهم عن قوانين الأحوال الشخصية. هكذا، عندما استولى هؤلاء على الحكم، بعد قتل منافسيهم، أو إبعادهم، كانت الأرض مسهّلة لاستقبال قوانينهم الرجعية: زواج القاصرات، الرجم، حق الزوج بمنع زوجته من الخروج إلى العمل، حقه بالطلاق متى يشاء، بانتزاع أولاده من أمهم، بالتعدّد المريح للزوجات، بزواج "التنهيدة" المؤقت للرجال المتزوّجين، وأخيراً، بل أولاً، بالحجاب الإلزامي.
الانتفاضة النسائية الحاصلة الآن في إيران، والتي أشعلها مقتل صبية كردية على يد "شرطة الإرشاد"، بسبب حجابها "غير الصحيح"، تخصّنا، نحن نساء العرب مباشرة، فالحجاب ليس سوى راية تختزن، في حالة الجمهورية الإسلامية، كل ما يقف خلفها من قوانين وأعراف تهدر حياة النساء على مذبح لذّة الرجال بالاستحواذ على النساء، والتحكّم بحركتهن. ذلك أن قوانين الأحوال الشخصية في كل الدول العربية، يحكمها رجال الدين، وتفسيرهم للشريعة. يعطيهم الحاكم حرية التصرّف عندما يشاء، ويمنعهم عنها عندما يشاء. وبين الإثنين مراوحة مستمرّة، لعْبَتها النساء، حريتهن، كرامتهن، سويتهن.
هذا من دون حُسبان تحكّم إيران بدول مثل اليمن والعراق وسورية ولبنان، حيث دأب قادة الثورة الإسلامية على تصديرها إلى العالم، وأينما تنجح، تنتشر، تترسّخ... في لبنان، كان النجاح باهراً، واعتبر الإيرانيون والعالم كله أن حزب الله هو درّة التوسّع الإيراني، وأذكى وأمهر من كل المليشيات التي موّلتها ايران تنفيذاً لتوسيع سيطرتها على كل العرب. والحزب، فوق ذلك، يجسّد حكم الملالي صراحة، خصوصاً من حيث جمعه بين القيادتين الدينية والسياسية.
مرّ وقتٌ على المنطقة، كان فيه السفور رمزاً للانعتاق، كما في عشرينات القرن الماضي. وفي سبعينات القرن نفسه وثمانيناته، صار الحجاب رمزاً للتمرّد ولمقاومة بطش الحاكم
ولا ننسى أن معاني الحجاب عرفت تقلّبات جذرية: مرّ وقتٌ على المنطقة، كان فيه السفور رمزاً للانعتاق، كما في عشرينات القرن الماضي، مع المصريتَين صفية زغلول وهدى شعراوي، اللتين أقدمتا على خلع حجابيهما، لدى عودتهن من أحد المؤتمرات في الخارج، فارتبط سفورُهما بالنضال ضد الاحتلال البريطاني مصر. وفي سبعينات القرن نفسه وثمانيناته، صار الحجاب رمزاً للتمرّد ولمقاومة بطش الحاكم. كما في إيران نفسها، عشية الثورة الإسلامية ضد قهر الشاه وشرطته السرية (السافاك)، كذلك في تركيا ضد الحكّام العسكر، وتونس ضد البيروقراطية القمعية، أو في سورية ضد الحكم حافظ الأسد. وعُرِف عن هذا البلد الأخير أنه، في أوائل ثمانينات القرن الماضي، كان هناك صراع بين "الإخوان المسلمين" السوريين وحكم البعث البوليسي، المتدثّر بعباءة الحداثة. وترجمته كانت تشجيع هذا الحكم على السفور. وفي هذه المعركة، كان الحجاب يرمز إلى مناهضة هذا الحكم. ويعرف من وقائع هذه المرحلة أن رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد وشريكه في الحكم، وصاحب مليشيا "سرايا الدفاع"، قاد حملة ضد المحجّبات في شوارع دمشق، بذراع فتيات هذه المليشيا، وقد عرفن باسم "المظليات". فكانت الواحدة منهن تهجم على أي محجّبة تجدها في طريقها، في الرصيف أو الشارع، تنزع عن رأسها الحجاب، وترميه على الأرض وتترك صاحبته باكيةً منهزمة، تشعر وكأنها تعرّت. تصدّى المارّة وقتها لهذه العملية بأشكال مختلفة: نساء أوقفن سياراتهن لحمل المحجّبات المعنّفات، أحد التجّار وزّع قطعاً من القماش على من تمزّق حجابها، تجار سوق الحمادية، الذي يعجّ بالنساء، حملوا العصي التي أغلقوا بها محلاتهم، وهرعوا إلى مدخل السوق ليمنعوا مظليات رفعت الأسد من الدخول إليه... والآن بشار الأسد ماذا يفعل؟ يترك المدّ الإيراني يتغلغل في سورية، ومعه أفكاره والحجاب وكل ملحقاته، فيما هو يقول إنه يخوض حرباً ضد "الإرهاب الإسلامي"، ويصدّر صورة زوجته والمسؤولات في إدارته من دون حجاب.
وفي لبنان، حيث يحكُم حزب الله جمهوره من النساء والرجال، ويتحكّم بمفاصل الدولة، يوكلها بالمفاوضات مع اسرائيل، يوافق، أو يزايد، أو يعرض عضلاته.. هذا الحزب الذي وفّقته الظروف بأن يصبح بلا منافس، أو بمعنى آخر، الذي يحكم الدين والدنيا... نشر التشادور الإيراني الأسود على الملتزمات به حزبيا، والحجاب المتشدّد على نصيراته. هذا الحزب الذي ينظّم الفتيات منذ صغرهن في الكشافة، حيث تُلقى عليهن محاضراتٌ عن فضائل الحجاب، وعند وصولهن إلى سنّ البلوغ، "السنّ الشرعية"، تقيم لهن القيادة احتفالات ارتداء الحجاب، وتقدّم لهن الهدايا بهذه المناسبة الجليلة.
ما الذي يجعل المرأة اللبنانية من أوساط حزب الله وحلفائه قاعدة، مستكينة، مبرمجة، تخرج بأمر وتدخل بآخر؟
هذا الحزب الذي لا يتوانى أمينه العام ويمنع نساءه من خوض الانتخابات، ويسيطر على المحاكم الجعفرية، ويقف سدّاً منيعا ضد أي تعديلٍ لبنود قوانين الأحوال الشخصية (الحضانة) .. ويضع نساء الطائفة الشيعية في ذيل نساء الطوائف الأخرى اللواتي تمكنّ من تحقيق بعض التعديلات على هذه القوانين.. ماذا يستطيع أن يقول عن انتفاضة نساء إيران ضد الحجاب؟ ماذا يستطيع أن يقول إعلام حلفائه من الحداثيين، العلمانيين، وحتى الشيوعيين؟
لا شيء جديدا، سوى تكرار ما يخرج عن الإثنين من "نظرياتٍ" مستهلَكة... الإعلام "الحداثي"، مثلاً، الذي كان يقول إنه يدعم حزب الله، لأنه يحارب إسرائيل، ولأنه في الوقت نفسه "يحافظ على الحرّيات الفردية"، من شرب الكحول وخروج النساء إلى البارات، والاستماع إلى الموسيقى والرقص، البحر .. إلخ... والذي سكتَ سابقاً عن انفعالات أو "عمليات" متفرّقة، قام بها جمهور الحزب ضد هذه أو تلك من مظاهره المحبّبة... يتناول هذا الإعلام انتفاضة نساء إيران بسرد تاريخ تعذيب الإيرانيين على يد الأميركيين، بتحيّته للتظاهرات المؤيدة للحجاب في طهران، والتي نظمها الملالي، بضرورة استمرار السلطة الإيرانية في ضرب كردستان العراقية، النقطة التي انطلقت منها انتفاضة النساء الإيرانيات، "لأنها قاعدة خلفية منذ سنوات لشنّ هجمات ضد الأراضي الإيرانية"، والتي "تستهدف التعاون الإيراني الروسي" .. إلخ. إعلام آخر، على الدرجة نفسها من قلّة الخيال، قال إن صور هذه الانتفاضة "مفبْركة وقديمة"، وإن ذيوعها الآن تعبير عن "توجّه جهات إعلامية محدّدة لتغطية أي حدث في روسيا والصين وفنزويلا"، والغرض منها "تأزيم" أوضاع هذه البلدان و"تغيير صورتها الحقيقية". لم يذهب حسن نصر الله أبعد من الإثنين. في كلمته قبل أيام، استخفّ بانتفاضة الايرانيات، وصف أخبارها بـ"الشائعات"، وبشّر بالطمأنينة، فالجمهورية "الإسلامية المباركة"، والتي يتضمّن دستورها أن الحاكم الحقيقي لهذه الدولة هو الإمام الحجة المهدي هي "أقوى وأرسخ وأشجع من أي زمن مضى".
كيندا الخطيب، الناشطة ضد السلطة اللبنانية وحزب الله التي اتهمت، كيدياً، بالتعامل مع إسرائيل، وبرئت منها، دعت إلى التظاهر على أبواب السفارة الإيرانية للاحتجاج على قمع انتفاضة نساء إيران، وجّه لها جمهور الحزب تهديداتٍ بمنع التظاهرة، بالعنف، وذكّرها أحدهم بأن تظاهرة مماثلة نُظّمت أمام السفارة الإيرانية قبل تسعة أعوام، وأسفرت عن مقتل الناشط المعارض للحزب نفسه، هاشم السلمان.
لماذا يبقى حزب الله معلقاً برقبة الولي الفقيه، لا يرى شيئاً حاصلاً في المجتمع الإيراني؟
لماذا لا تجاري نساء حزب الله نساء إيران في تمرّدهن على القيادة الدينية؟ لماذا لم تخرج منهن امرأة مثل شيرين عبادي التي حازت جائزة نوبل للسلام، أو عالمة الرياضيات مريم ميرزاخاني، أول امرأة تنال جائزة "فيلد" للرياضيات التي تضاهي "نوبل"...؟ ما الذي يجعل المرأة اللبنانية من أوساط حزب الله وحلفائه قاعدة، مستكينة، مبرمجة، تخرج بأمر وتدخل بآخر؟ غير علو صوت بعضها وهي مفجوعةٌ من حرمانها من أطفالها بقوانين جائرة يحميها حزب الله؟ أو غير عارفة، ولا مشاركة بالنضالات اليومية للمرأة الإيرانية ضد قوانين الملالي، وبإزاحتها الحجاب مليمتراً بعد مليمتر... بحرقها أخيراً لهذا الحجاب وانتفاضتها ضده؟ الجواب أن الكتلة الأكبر لهذه المرأة تابعة لحزب الله، وقانونه المعروف. أي أن أي خروج عنه يعني الخروج من الطائفة، وإعطاء الطوائف الأخرى، العدوّة، مبرّراً لضربها، أو إسقاطها.
حسناً، ولماذا يبقى الحزب معلقاً برقبة الولي الفقيه، لا يرى شيئاً حاصلاً في المجتمع الإيراني؟ ولا يفعل غير ترداد ما يصدُر عن هذا الفقيه، للمرة الألف، بلا كلَل ولا ملَل، بأن "مؤامرة أميركية" تحاك ضده؟ لأن علاقة هذا الحزب بإيران ليست علاقة مجتمع بمجتمع، يستطيع بوسعها أن يتفاعل مع ما يجري داخل هذا المجتمع الذي يموج بالنضالات اليومية، نسائية كانت أم قطاعية أم مهنية. علاقته تقتصر على "الحرس الثوري"، أي الهيئة المخوَّلة إخضاع الإيرانيين بالقوة، بالقتل، بالعزل، بقطع كل الخطوط مع الخارج. وهو بذلك، إذا أعطى نَفَساً، ولو صغيراً، لانتفاضة النساء الإيرانيات، ينتفي مبرّر وجوده، ويُنكر ولاءه المطلق للمرشد الأعلى، المنعم عليه بهذا الوجود، وصاحب الكلمة الفصل بإبقاء النساء محجّبات، خاضعات، أسيرات قطعة قماش على رأسهن، لم تعُد ترمز إلا لعبوديتهن.