المصريون والحكومة والأشجار... وقمة المناخ
بات قطع الأشجار في مصر المحروسة ظاهرة متكرّرة تصاحب مشروعات بناء المرافق الخدمية وتطويرها، كالجسور ومرافق الصرف الصحي ومشروعات البنية التحتية الأخرى، بشكلٍ لا يراعي الوظيفة البيئية أو الغذائية للأشجار والمساحات الخضراء، وذلك باعتبار الأشجار والمساحات الخضراء حلاً بديهياً فعّالاً ومنخفض التكلفة لعلاج مشكلات تلوث الهواء والضوضاء، وتوفير الظل في الشوارع، وتبريدها في ظل الزيادات القياسية لدرجات الحرارة حالياً. لا يقتصر هذا على المدن وحدها، ففي القرى يزرع الناس، بجهودهم الخاصة وعرقهم، حوافّ الترع والطرق والشوارع وأية مساحة فارغة أمام منازلهم بالأشجار المثمرة، كالنخيل والعنب والجوافة والليمون والمانغو، وما تجود به أراضينا. كنا نلاحظ هذا في كل حركتنا على الطرق الزراعية في الصعيد وفي الدلتا، تنتشر أشجار الكافور والأخشاب.
بلغني، قبل أيام، أن العاملين في مشروع الصرف الصحّي للقرى قطعوا أشجاراً عديدة في قريتنا وشجرتين من أمام منزلنا وحده، أقلهما عمراً تجاوزت خمسة عشر عاماً. وليس هذا استثناءً، فقد كانوا يقتلعون هذه الأشجار عند كل عملية تطهير للترع. وحتى الترع التي غُطِّيَت وزرع الأهالي المساحات الفارغة التي نتجت من التغطية لم تسلم من إبادة الأشجار، وهي ليست أشجاراً زرعتها الحكومة، فالقرى تكاد تكون مستبعدة من أية خطط للتشجير، باعتبارها خضراء بالطبيعة، بل أصبحت الأشجار أخيراً هدفاً للمجالس المحلية، للتكسّب من أخشابها، حتى لو أدّى ذلك إلى القضاء عليها فقط من أجل أن تزيد مواردها زياداتٍ لا تُذكر.
بالتأكيد، كان هناك ألف خيار بعيداً عن اقتلاع الأشجار المثمرة والمظلّلة على الحيوانات والسيارات والبشر في أجواء قد تزيد حرارتها فعلياً في صيف الصعيد على خمسين درجة مئوية، والتي حذّرت تقارير بحثية وعلمية لمؤسّسة غرين بيس وغيرها منذ أيام، أن منطقة الشرق الأوسط تعاني ضعف المعدّل العالمي للاحترار، أنها قد تشهد درجاتٍ تزيد كثيراً على 50 درجة مئوية خلال أعوام، لكنها عقلية الفشل والفساد المصرية، نظام كله ضد الطبيعة والبنية الصحيحة للمجتمعات، حتى إذا أراد الإصلاح، لا بد أن يفسد أكثر مما يصلح، لكنها مصر، يزرع الناس والحكومة تقطع وتخلع وتجرف وتترك خرابها وتنسحب في صمت، تماماً كما قوة الاحتلال، تاركة آثار جرائمها تبقى في الشوارع شهوراً، وفي الصدور أعواماً.
في مصر إذا ذكرت البلديات والمحليات، ذكر الهدم وخلع الأشجار وتدمير البيئة والغرامات والرشى والفساد في كل حركاتها وسكناتها
كنا نعلم أن المصريين يدفعون، منذ سنوات، رسوماً سنوية زهيدة على استعمال الجروف، وهي حوافّ الترع والقرى في الزراعة، لكنّ خبراً مؤسفاً بلغني، أن هذه الرسوم قد تضاعفت إلى أرقام جنونية، حتى وصلت إلى رسم على كل شجرة نخيل يصل إلى 180 جنيهاً سنوياً، الأمر الذي دفع المزارعين إلى قتل نخيلهم بأيديهم، فهم لم يكونوا يستعملون هذا النخيل تجارياً بالأساس، وهذه القرى تضجّ بالفقر والفقر المدقع. ونحن هنا نتحدّث عن جروف ممتدة على طول عشرات آلاف من الكيلومترات من الطرق والترع عبر ربوع مصر.
وكأن الحكومة تقول للمواطن: "لن نتركك أينما ذهبت، حتى إذا مشيت بداخل الحائط سنأتي إليك أمام منزلك، سنضايقك وسنقطع أشجارك". قد يتفهّم المرء بصعوبة وحسرة شديدة التبريرات السطحية لقطع الأشجار في بعض شوارع القاهرة البائسة المزدحمة للتوسعة، لكنه لا يستطيع أن يتفهم هذا في قرى فسيحة.
اختُرعت البلديات والإدارة المحلية في الدنيا لتعين الناس على تسيير أمورهم وتنظيم حركتهم وأسواقهم وتنظيف شوارعهم وجمع قمامتهم ورعاية أشجارهم، بينما في مصر إذا ذكرت البلديات والمحليات، ذكر الهدم وخلع الأشجار وتدمير البيئة والغرامات والرشى والفساد في كل حركاتها وسكناتها. وليس الأمر جديداً، فلم يخطئ بيرم التونسي بحرف في وصف المجلس البلدي في مصر في عشرينيات القرن الماضي، ولم تكن أبياته مبالغة شعرية وأدبية، بل ما كان تعبيراً مجازياً في حينه، أصبح واقعاً نعيشه وأسوأ مع الأسف.
في الدول المحترمة وشبه المحترمة، هناك مكان لقضية الأشجار والمساحات العامة الخضراء على أجندة الحكومة والعمل المحلي الخاص بها ضمن كل الأنشطة، ولديها مؤشّرات وأهداف واضحة كعدد الأشجار، ونسب المساحات الخضراء، وأهميتها للبيئة ولصحة المواطنين، وفوائدها الأخرى المتعدّدة، والأطر القانونية الخاصة بحماية الأشجار وحق المواطنين والمواطنات، ودورهم في المشاركة في صناعة القرارات الخاصة بالأشجار والمساحات الخضراء، بينما في مصر من سيعترض على قطع أشجاره، فعلى أقل تقدير، يُزَجّ في السجن، وقد يجد نفسه محاطاً بجملة من الاتهامات المعتادة والمتكرّرة في الفترة الماضية.
القرى تكاد تكون مستبعدة من خطط للتشجير، باعتبارها خضراء بالطبيعة، بل أصبحت الأشجار هدفاً للمجالس المحلية للتكسّب من أخشابها
انتهت قمة المناخ بقرار تاريخي، بإقرار تأسيس صندوق للخسائر والأضرار للدول النامية. ولكن ما زال هناك الكثير لحسم قواعد تمويله وتقييم الخسائر والأضرار، لكنه اعتراف تاريخي بالمسؤولية ونجاح كبير للدول الفقيرة ولمصر رئيسةً لمؤتمر المناخ. لكنه شهد أيضاً تراجعاً عن مخرجات قمم سابقة، فكانت أبرز نقاط ضعف مخرجات مؤتمر شرم الشيخ حذف الربط بين الوقود الأحفوري وهدف الدرجة ونصف حرارية، والإبقاء على فكرة حصر الاحترار في حدود 1.5 درجة مئوية بعد أن كان النقاش في درجتين مئوتين. وفي حقيقة الأمر، يُنظر إلى مسوّدة الوثيقة النهائية التي طرحتها مصر على أنها انتكاسة، بالقياس إلى لغة اتفاق باريس للمناخ، من حيث العمل على حصْر الاحترار دون درجتين مئويتين، وبذل أقصى الجهود لإبقائه دون 1.5 درجة مئوية إنْ أمكن. وفي ذلك خضوع لضغوط الدول النفطية الخليجية وشركات البترول والغاز والهند والصين اللتين تريان أن شيئاً لم يعد مجدياً من الناحية العلمية على هذا الصعيد، وهي التي رفعت تمثيلها في المؤتمر إلى مستويات تاريخية، ووقعت اتفاقات عكس اتجاه ما ينبغي أن يكون، وبتواطؤ أوروبي ناتج من تبعات الحرب الروسية الأوكرانية الجارية.
وبينما كانت الشعوب وبعض الدول تبحث عن التزام البيئة الخضراء المستدامة، كانت مصر تبحث عن القروض والسندات الخضراء، وتغنّت الحكومة وإعلاميوها كثيراً طوال عام تقريباً باستضافة قمّة المناخ. والآن يتغنّون بفعالياتها ونتائجها وصندوق التعويضات والخسائر، وتعاملوا معها بمبالغاتٍ كثيرة. فهل يعوّض هؤلاء مواطنيهم عن قطع تلك الأشجار بإعادة زراعتها؟ أم على الأقل هل يمتنعون عن قطع الأشجار بعد قمة المناخ، أم نكتفي بالدعاء إلى الله: قطعوا شجرتنا، قطع الله أشجارهم وأفكارهم من جذورها؟