المبادرة السعودية ومآلات حرب اليمن

29 مارس 2021
+ الخط -

على الرغم من الترحيب الدولي والعربي بالمبادرة السعودية بشأن اليمن، وقد أعلنها وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، في 22 مارس/ آذار الجاري، فإن فرص نجاحها تبدو محدودة، في ظل تحوّل اليمن إلى ساحة صراعٍ إقليمي ودولي؛ إذ تشهد البلاد سباقاً محموماً، بين المبادرات/ الجهود الدبلوماسية واحتدام المعارك على جبهات مأرب وتعز وحجّة، ما يؤكّد حجم التعقيدات/ التشابكات الداخلية والخارجية، في الصراع اليمني الذي بات يمثّل "أسوأ أزمة إنسانية في العالم"، بحسب توصيف الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصّصة.
ولعل أبرز دوافع مبادرة الرياض هو التجاوب مع سياسات إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، التي تبحث عن تحقيق "إنجاز" سريع وسهل في اليمن، عبر التركيز على الحلول الدبلوماسية والسياسية، وبما يدعم موقع أميركا بايدن في قضايا أخرى، (مثل أفغانستان وسورية والعراق وفلسطين). وربما يهدف تقديم المبادرة في الذكرى السادسة لحرب اليمن إلى تخفيف الضغوط الدولية والانتقادات الحقوقية الموجّهة إلى الرياض، ونقلها إلى ملعب الحوثيين وإيران، وتحميلهما مسؤولية استمرار القتال وتردّي أوضاع اليمن، باعتبارهما يرفضان المبادرة، ويعرقلان الجهود الأممية والأميركية لوقف الحرب.

سياسات واشنطن تواجه "عقبات/ إشكاليات" حقيقية في الشرق الأوسط، حتى بعد انخراطها الدبلوماسي الكثيف في الملفين، اليمني والإيراني

وإلى ذلك، ثمّة أربعة متغيرات مترابطة تتعلق بتوقيت طرح المبادرة؛ تصعيد القتال، خصوصاً في جبهة مأرب. "استعصاء" أي اختراق في الملف النووي الإيراني، بعد وصول بايدن إلى السلطة. تصاعد استهداف المنشآت النفطية والمطارات والقواعد الجوية، في العمق السعودي، على نحو يُذكّر بالتداعيات الاستراتيجية للهجوم على منشآت شركة أرامكو في أبقيق وهجرة خريص في 14 سبتمبر/ أيلول 2019، الذي أدّى إلى إيقاف نصف الإنتاج النفطي السعودي حينها. خطاب المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، في 21 مارس/ آذار الجاري، وإشارته إلى أن السعودية "عالقة في مستنقع حرب اليمن، وأنها لا تستطيع وقفها ولا مواصلتها". وأخيراً خطاب زعيم جماعة أنصار الله (الحوثيين)، عبد الملك الحوثي، ورفض فيه المقايضة بين الحقوق المشروعة للشعب اليمني (في وصول المشتقات النفطية، والاحتياجات الإنسانية، والمواد الغذائية والطبية)، والشروط العسكرية والسياسية.
وفي إطار تحليل تأثير المبادرة السعودية على مآلات حرب اليمن ومساراتها، ثمّة ثلاث ملاحظات: الأولى أن بؤرة تركيز إدارة بايدن هي استعادة موقع أميركا القيادي العالمي، في مواجهة الصعود الاقتصادي الصيني والنفوذ الاستراتيجي الروسي، والتصدي لقضايا المناخ وتداعيات جائحة كورونا. كما أن سياسات واشنطن تواجه "عقبات/ إشكاليات" حقيقية في الشرق الأوسط، حتى بعد انخراطها الدبلوماسي الكثيف في الملفين، اليمني والإيراني، ما يحدّ من قدرتها على الحركة وفرض الحلول، بسبب تداعيات الانكفاء الأميركي في عهدي باراك أوباما ودونالد ترامب، سيما أن الأخير افتقد استراتيجية كبرى (Strategy Grand)، ما أجّج مستويات الصراع الإقليمي، على نحو ما تجلّى في حصار قطر، وكذلك في أزمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي التي ولّدت صراعاً حقيقياً بين السعودية وتركيا لا يزال قائماً.

محصلة التدخلات الخارجية، الأممية والدولية والإقليمية والسعودية، في اليمن كانت سلبيةً وقاصرة عموماً

وقد أضفت تداعيات جائحة كورونا مزيداً من التعقيدات على تفاعلات إقليم الشرق الأوسط، بحيث باتت صراعاته "شبه مستعصية" على الحلول والتسويات؛ إذ أدّت توظيفات/ سياسات الفاعلين الإقليميين (مثل إسرائيل وإيران وتركيا وإثيوبيا ومصر والسعودية والإمارات)، وكذلك سياسات الفاعلين المحليين (مثل جماعة الحوثي، والمجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن، ومقاتلي السلفية المدخلية في اليمن وليبيا، والقوات التابعة لخليفة حفتر في ليبيا .. إلخ)، إلى تعميق الاستقطابات الإقليمية والمحلية، ما قد يحتاج وقتاً طويلاً نسبياً لمعالجة آثاره، أخذاً في الحسبان تداعيات السياسات الدولية والإقليمية التي اختزلت "المسألة اليمنية"، في منظور أمني/ إغاثي، لا يكترث كثيراً بتعقيداتها الداخلية وتشابكاتها مع الأبعاد الدولية والإقليمية، فضلاً عن تجاهل نتائج سياسات نظام علي عبد الله صالح، ونمط إدارته الدولة وتحالفاتها الخارجية التي أحالت اليمن إلى "دولة فاشلة".
تتعلق الملاحظة الثانية بأن محصلة التدخلات الخارجية، الأممية والدولية والإقليمية والسعودية، في اليمن، سيما بعد ثورة الشباب في فبراير/ شباط 2011، كانت سلبيةً وقاصرة عموماً؛ إذ كانت تُكرّس أفكار تجزئة الدولة، وتأجيج عملية تفسيخ المجتمع وتطييفه وعسكرته، وتحويله إلى طرف "عاجز"، ينتظر وصول المساعدات الدولية والإغاثة الإنسانية التي تحوّلت إلى أداة لإدارة الأزمة، والتغطية على العجز الدولي عن اجتراح حلول سياسية تعالج جذور الصراع في اليمن.
أكثر من ذلك، استغلت الإمارات غياب الاستراتيجية السعودية تجاه اليمن، خصوصاً بعد سقوط صنعاء بيد الحوثيين في سبتمبر/ أيلول 2014، وعملت على الالتفاف على أدوار قطر والكويت وعُمان (التي تشجّع الدبلوماسية والوساطات السياسية وتقديم المساعدات الإنسانية .. إلخ)، لكي تَحرف أبوظبي عمليات "التحالف العربي" لتحقيق مطامعها في ثروات اليمن، عبر ترسيخ انقسامه إلى إقليمين متصارعين، ونجحت، إلى حد كبير، في سياستها للسيطرة على جنوب اليمن وأغلب الموانئ المهمة في البلاد، عبر المجلس الانتقالي الجنوبي وقوات الأحزمة الأمنية ومليشيات السلفية المدخلية .. إلخ.

قرارات الرياض بتشكيل "التحالف العربي"، وشنّ ضرباتٍ جويةٍ على الحوثيين، واستخدام أدوات إكراهية، مثل حصار اليمن، كانت متعجّلة

تتعلق الملاحظة الثالثة بغياب "المشروع السعودي/ العربي"، في مواجهة المشروعات الإقليمية والدولية، وانخراط مثلث الرياض/ القاهرة/ أبوظبي في إجهاض مسار التغيير الذي بدأته الثورات العربية عام 2011، وتبني هذا المثلث سياسة الثورات المضادّة، على نحوٍ أضعف العالم العربي بشكلٍ خطير جداً، وأدّى إلى تحكّم العامل الخارجي في مصيره، وزجّ الشعوب العربية في صراع المحور الأميركي الإسرائيلي، في مقابل سياسات الثلاثي، الروسي الصيني الإيراني.
ولذا يمكن القول إن قرارات الرياض بتشكيل "التحالف العربي"، وشنّ ضرباتٍ جويةٍ على الحوثيين، واستخدام أدوات إكراهية، مثل حصار اليمن، كانت متعجّلة؛ إذ كان في وسع الرياض اللجوء إلى أدوات توفيقية/ تعاونية، أثبتت جدواها عقودا طويلة من العلاقات السعودية اليمنية، لحشد قوى المجتمع اليمني ومقاتليه، من القبائل، للتضييق على الحوثيين، وإرغامهم على فكّ ارتباطاتهم الإقليمية، والتموضع كحركة سياسية ضمن النسيج اليمني.
والمؤكّد أن المبادرة السعودية تجاه اليمن جاءت متأخّرة جداً، وربما تتحوّل إلى ورقة ضغط على الرياض، وقد تحفّز الحوثي (وحليفه الإيراني) بالتوجه أكثر نحو التصعيد العسكري، لتعميق "المأزق السعودي" في اليمن والإقليم عموماً. ويبقى مهماً، في هذا السياق، التفرقة بين قدرة الدبلوماسية السعودية على إشغال المشهد الإعلامي بمواقفها وتأثيرها الفعلي على الأرض، في ظل قصور سياساتها الخارجية وأدوات تنفيذها وارتباك تحالفاتها الإقليمية، بسبب "الرهان الزائد" على الرئيس السابق، ترامب، وسياسات الإمارات الإقليمية.

حرب اليمن "خطيئة استراتيجية"، ويصعب الزعم أن الطرف الحوثي أو إيران سيخرج منها منتصراً أو رابحاً

تحتاج السعودية إلى إعادة النظر في مجمل سياساتها الإقليمية، خصوصاً التصالح مع تركيا وباكستان، وفتح حوار خليجي/ إقليمي مع إيران، والعودة إلى سياسات "التهدئة والوساطات وحل النزاعات الإقليمية وتقديم المساعدات" التي تناسب الرياض أكثر من سياسات العسكرة والتصعيد والتأزيم الراهنة.
وإذ تمثّل حرب اليمن "خطيئة استراتيجية"، فإنه يصعب الزعم أن الطرف الحوثي أو إيران سيخرج منها منتصراً أو رابحاً؛ فالفاتورة الإنسانية الباهظة لهذه الحرب ستبقى شاهداً حياً على نمط صنع القرار في العالم العربي وإيران؛ حيث لا يجد بعض الساسة حرجاً في سقوط آلاف الضحايا في مقابل تحقيق وهم "الزعامة الإقليمية" أو "انتصار المشروع الطائفي"، في غياب مفاهيم المواطنة والحرية واحترام حقوق الإنسان.
باختصار، لا يوجد "حل سحري" لإنهاء الحرب سريعاً، بيد أن مسألة خروج الرياض منها تبقى تحدياً مصيرياً بالنسبة للسعودية والخليج والدول العربية، إذ ليس في وسعهم جميعاً ترك اليمن غارقاً في أزماته، من دون أن تصيبهم عواقب كثيرة.

C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
أمجد أحمد جبريل

باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.

أمجد أحمد جبريل