عن سلام فلسطين والدبلوماسية القطرية
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
حملت كلمة أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (24/9/2024)، جملةً من الرسائل السياسية والقانونية والأخلاقية، التي تعكس سياسة الدوحة تجاه القضايا العربية والدولية عموماً، وتجاه قضية فلسطين خصوصاً.
وبغية تحليل دلالات هذه الكلمة، وسياقاتها الأوسع المتعلّقة بسياسة قطر تجاه قضية فلسطين إجمالاً، وجهود الوساطة القطرية في حرب غزّة الراهنة على وجه التحديد، ثمّة أربعُ ملاحظات؛ أولاها محورية القضية الفلسطينية في الكلمة (والخطاب الدبلوماسي القطري عموماً)؛ كما يتّضح من استهلال هذه الكلمة بموضوع حرب غزّة، واستئثار تطوّرات قضية فلسطين وسبل حلّها "حلّاً عادلاً"، بنحو ثلثَي الكلمة (18 فقرة، في مقابل تسع فقرات لكل القضايا الأخرى)؛ إذ أكّد أمير قطر أنّ "قضية فلسطين عصيّةً على التهميش"، على الرغم من التقاعس الدولي في حلّها، وتمادي الاحتلال الإسرائيلي في فرض الأمر الواقع على الشعب الفلسطيني والعالم بأسره، ولا سيّما في ظلّ حرب غزّة الوحشية، التي أطلقت "رصاصة الرحمة على الشرعية الدولية".
وعلى الرغم من التزام خطاب قطر اللغةَ السياسيةَ الدبلوماسيةَ القانونيةَ، وكذا مقتضيات دور الوسيط النزيه، جرى تسمية الأمور بمسمّياتها، عبر مصطلحات دقيقة (واضحة)، وتوصيف حرب غزّة الراهنة بـ"العدوان الأشدّ همجيةً وبشاعةً، والأكثر انتهاكاً للقيم الإنسانية والمواثيق والأعراف الدولية. إنّها جريمة إبادة بأحدث الأسلحة لشعب مُحاصَر، في معسكر اعتقال، لا مهرب فيه من وابل القنابل، الذي تلقيه الطائرات".
تتعلّق الملاحظة الثانية بالوساطة القطرية، والسعي لوقف العدوان على غزّة وإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين؛ إذ تمّ تأكيد أربع رسائل في هذا الصدد؛ إبراز أنّ "الوساطة والعمل الإنساني، هما خيار قطر السياسي الاستراتيجي، على المستويَين الإقليمي والدولي"؛ نجاح الوساطة القطرية المصرية الأميركية بعقد اتفاق هدنة إنسانية (24 - 30/11/2023)، أسفر عن تبادل 240 أسيراً فلسطينياً في مقابل 109 محتجزين إسرائيليين، فضلاً عن زيادة الشحنات الإغاثية لأهالي قطاع غزّة؛ تأكيد استمرار دعم قطر دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، التي لا يمكن الاستغناء عنها، على الرغم من الافتراءات الإسرائيلية ضدّها، إذ ترغب دولة الاحتلال (عبر استهداف الوكالة وتشويه صورتها) في تصفية قضية اللاجئين، من دون حلِّ قضية فلسطين؛ استمرار جهود الدوحة في التوسّط لحلّ النزاعات بالطرائق السلمية، رغم تصاعد التحدّيات ومحاولات العرقلة، وما تعرّضت له دولة قطر من افتراءات وتشكيك في نيّاتها من ممارسة أدوار الوساطة وبذل المساعي الحميدة لحلّ الصراعات.
إنّ سياسة دولة قطر تجاه حرب غزّة، وتجاه قضية فلسطين إجمالاً، عكست تكاملاً في أدوات تنفيذ السياسة الخارجية
تتعلق الملاحظة الثالثة بوضوح موقف الدوحة في تحميل إسرائيل والمجتمع الدولي تبعات حرب الإبادة على غزّة، وتذكير العالم بعد مرور عام من الحرب، بأنّه "لم يعد ممكناً الحديث عن حقّ إسرائيل بالدفاع عن نفسها في هذا السياق، من دون التورّط في تبرير الجريمة"، ولا سيّما مع استحالة ادعاء أيّ مسؤول جهله بالحقائق، في ظلّ صدور العديد من تقارير المنظّمات الدولية بشأن "قصف المدارس والمستشفيات واستخدام الغذاء والدواء سلاحاً".
وإلى ذلك، كان لافتاً إدانة قطر اغتيال إسماعيل هنيّة، "أوّل رئيس وزراء منتخب لفلسطين"، إضافة إلى انتقاد تداعيات السياسات الدولية في تجاهل الحلّ العادل لقضية فلسطين، واستمراء بعض الدول العودة إلى حلول لإدارة غزّة بعد الحرب من منطلقات تخدم أمن الاحتلال، وليس أمن الرازحين تحته، واجترار "النهج الذي يريد تفصيل المنطقة كلّها على قياس إسرائيل، ويبحث عن طرقٍ التفافيةٍ لتجنّب إنهاء الاحتلال، وفرض حكم شعبٍ على شعبٍ آخر بالقوة".
وبدلاً من ذلك، نبّه أمير قطر الدول الكبرى "ذات القدرة على التأثير في سير الأحداث" إلى ضرورة وقف الحرب، والتوجّه إلى الحلّ العادل لقضية فلسطين، وهو زوال الاحتلال وممارسة الشعب الفلسطيني حقّه في تقرير المصير. وعلى الرغم من أنّ حصول دولة فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة لا يُنهي الاحتلال، ولكنّه "يرسل رسالةً إلى حكومة اليمين المُتطرّف الضالعة في تحدّي الشرعية الدولية بأنّ القوة لا تلغي الحقّ".
واستطراداً في التحليل، كان لافتاً في الكلمة، تكرار مصطلح "الحلّ العادل لقضية فلسطين"، في مقابل غياب مصطلح "حلّ الدولتَين"، وتأكيد استمرار مساعي الدوحة بالتعاون مع الشركاء حتّى التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار الدائم في غزّة، وإطلاق الأسرى والمعتقلين، والتوجّه إلى مسار الحلّ العادل وفقاً لقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، وحصول الشعب الفلسطيني على كل حقوقه المشروعة، وفي مقدّمتها دولته المستقلّة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود 1967.
تجاوزت الدوحة منطق "الوساطة الإنسانية"، وتقديم "الإغاثة الطارئة"، ووسّعت نطاق حركتها، وصولاً إلى تكريس نشاط دبلوماسي وسياسيّ، يدعم قضية فلسطين وشعبها
تتعلّق الملاحظة الأخيرة بنداء الشيخ تميم أمام الجمعية العامة للأمم المتّحدة، بوقف "العدوان على غزّة، والحرب على لبنان"، والتذكير بأنّ بلاده حذّرت، مراراً وتكراراً، من هذا السيناريو الخطير للغاية، الذي تصرُّ حكومة اليمين الإسرائيلي، بزعامة الثلاثي بنيامين نتنياهو وإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتيرتش، على جرّ الجميع إليه جرّاً، ما يعني توسّع الصراع في إقليم الشرق الأوسط، وفشل سياسة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، في احتواء الصراع، منعاً لنشوب حرب إقليمية واسعة، على نحو قد يُؤدّي، في المحصّلة النهائية، إلى خروج الأمور عن السيطرة تماماً، وتصاعد احتمال سيطرة قوى فوضوية راديكالية عنفية على الإقليم، بما ينطوي عليه هذا السيناريو من تهديدات جوهرية لمصالح القوى الدولية والإقليمية، بسبب إحجامها عن الضغط لكبح جماح سياسات القوة والاحتلال، وفرض الأمر الواقع ومصادرة حقوق الشعوب.
يبقى في الختام القول إنّ سياسة دولة قطر تجاه حرب غزّة، وتجاه قضية فلسطين إجمالاً، عكست تكاملاً في أدوات تنفيذ السياسة الخارجية؛ إذ تجاوزت الدوحة منطق "الوساطة الإنسانية"، وتقديم "الإغاثة الطارئة"، ووسّعت نطاق حركتها، وصولاً إلى تكريس نشاط دبلوماسي وسياسيّ، يدعم قضية فلسطين وشعبها لنيل حقوقه المشروعة، فضلاً عن سعي دولة قطر إلى إدخال مصطلح "الحلّ العادل لقضية فلسطين"، في الخطاب الدبلوماسي الإقليمي والدولي، ما يُؤكّد أمرَين مهمَّين؛ أحدهما استمرار الحاجة الدولية والإقليمية إلى أدوار الوساطة والجهود الدبلوماسية، على الرغم من تعقّد هذه الجهود والمساعي، عندما تكون إسرائيل طرفاً في أيّ أزمة إقليمية، في ظلّ سياساتها المتواترة، في العرقلة والتخريب والتعقيد والتصعيد والمناورة، بالتوازي مع تجاهل تلّ أبيب المُتكرّر أبسط مقتضيات القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية. والآخر استمرار سياسة الدوحة في دعم قضية فلسطين، وتأكيد الرؤية القطرية في حلّ الصراعات، عبر الدبلوماسية والحوار والتفاوض، والعمل على نزع فتيل الأزمات الإقليمية، في محاولةٍ لكبح جماح السلوك الإسرائيلي، (الذي يحظى بدعم أميركي هائل، في ظلّ صمت دولي وعربي شبه مطبق)، في مرحلة انتقالية خطيرة يمرُّ بها النظامان الدولي والإقليمي، الأمر الذي يضع الجميع على مفترق طرق حقيقي، فإمّا أن ينتصر أنصار مقاربة "التهدئة الإقليمية" وأدوات الحوار والدبلوماسية والوساطة، وإمّا أن ينتصر أنصار اليمين الإسرائيلي المُتطرّف، وداعموه من القوى الدولية الراغبة في إشعال (تأجيج) الحروب، بغية زيادة تصدير السلاح والتقنيات العسكرية، وإبرام الصفقات وإعادة ترسيم الخرائط، وإعادة صياغة موازين القوى الإقليمية والدولية، انطلاقاً من إقليم الشرق الأوسط، في دورة أخرى تتجاهل دروس التاريخ وأحكامه.
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.