الكذب – الحقيقة
"الكذب – الحقيقة"، عبارة ابتكرها الشاعر الفرنسي، لويس أراغون، (1897 - 1982) وطبّقها رجعيا على مناطق الظلّ في حياته الطويلة الملأى بالتناقضات والألغاز، وقد اجتاز القرنَ العشرين بكل ما حواه من حروبٍ وانقلاباتٍ وثوراتٍ وإيديولوجياتٍ تنافرت وتضاربت إلى درجة قصوى، جعلتها تودي بحياة الملايين من البشر. وعلى الرغم من كل ما مثّله من تناقضاتٍ جعلت له محبّين ومريدين، بقدر ما أنتجت له أعداء وغرماء، فقد اعتُبر هذا الأديب، بالإجماع وعن جدارة، من كبار عمالقة هذا العصر، ومن أكبر شعرائه ومناضليه على الإطلاق. هذا ويرى بعض دارسي سيرة حياته أن أوجهه العديدة والمتعارضة ورغبته في إخفاء بعض جوانبها، قد تكون عائدةً إلى طبيعة طفولته، إذ لم يدرك، إلا شابا وقبيل مغادرته للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، أنه ثمرة علاقةٍ غير شرعية بين مفوض للشرطة رفض الاعتراف بأبوته وأمه مارغريت التي جعلته يظنّ أنها أخته الكبرى، وأن والده هو عرّابه. وهذا مما يفسّر، برأي هؤلاء، تعلّقه القوي والثابت "بعائلة" الحزب الشيوعي الفرنسي الذي انتسب إليه، ودافع عنه، وبرّر سياساته وسياسات الاتحاد السوفييتي، وذلك مع تكشّف اطلاعه على كل الفظائع التي ارتُكبت في الحقبة الستالينية.
ولم يكتف أراغون الذي كان من أقوى المناضلين ضد الفاشية والنازية بكتابة الشعر، بل كان روائيا وصحافيا ومن روّاد النقد الأدبي والفن الواقعي، وقد ترأس تحرير مجلة الآداب الفرنسية التي شارك في تأسيسها، وكان يدير الحركة الثقافية والأدبية النقدية في فرنسا منذ العام 1945 بوصفه أيضا مدير دار الناشرين الفرنسيين المتحدين ونائب رئيس اللجنة الوطنية للكتاب وعضو في لجنة جائزة غونكور الأدبية. إلا أن أهمّ الأحداث التي وجّهت حياته، وأثرت في مسارها، كما يقول، لقاؤه، عام 1928، في أحد مقاهي مونبارناس الباريسية، بملهمته ومحبوبته التي كتب فيها وفي عينيها أجمل قصائد الحب على الإطلاق ("مجنون إلسا"، "إلسا"، "عينا إلسا")، الكاتبة والمترجمة والصحافية الروسية الأصل، إلسا تريوليه، التي كانت تتقن الروسية والألمانية، لتكون شريكة حياته في الزواج (1939) والأدب والثورة، فيشكلا معا أسطورة أدب وعشق ونضال ستجوب أخبارُها العالم.
في 16 يونيو/ حزيران 1970، توفيت إلسا بأزمة قلبية في منزلها، وقيل إن الرزنامة بقيت تبرز التاريخ نفسه بما أن الشاعر كان قد كفّ عن تعداد الأيام بعد رحيلها. لكن، وبعد أشهر قليلة لا أكثر، راحت الأخبار تنتشر عن المثلية المعلنة لأراغون الذي كان قد بلغ عامه الثالث والسبعين، إذ راح يُشاهَد مرتديا أزياء إيف سان لوران الأنيقة، ومتجوّلا ليلا في الشوارع والحانات برفقة شبّان أو بحثا عنهم. وقد صرّح الشاعر السبعيني بصدد ذلك قائلا: "إنه لم يكن يميل إلى الذكور قبلا"، إلا أن إحدى الرسائل الغاضبة التي وجهتها إلسا إليه عام 1965، وكانا على وشك الانفصال، تُظهر عكس ذلك، بالإضافة إلى كلام في أكثر من موضع عن إهماله لها وميله الدائم إلى الشبّان وانجذابه جنسيا إليهم. فهل كانت قصة الحب الأسطورة مجرّد وهم غذّاه أراغون خوفا من رد فعل إلسا، أو خوفا على مشاعرها، أو خوفا من ذاته ومن الآخرين؟
في المحصّلة ومهما يكن، يبقى الكذب - الحقيقة هو هذا الشعر الذي كتبه أراغون في قصيدته الشهيرة "عينا إلسا": "عيناك لشدة عمقهما/ رأيتُ فيهما وأنا أنحني لأشرب/ كلَّ الشموس تتمرّى/ كلَّ اليائسين يرتمون حتى الموت/ عيناك لشدة عمقهما، أُضيع فيهما ذاكرتي". وهو في المقابل، هذا القهر البادي في تلك الرسالة الأخيرة التي خطّتها إلسا لزوجها: "أنت لا تعرف اللّذة العادية لفعل أي شيء معاً. كلمة بسيطة بهذا الشأن، وها أنت تبدأ بشرح الكمّ الهائل من الأمور التي عليك فعلها (...). إن حزني يزعجك، فلا يجب أن أتألّم بالذات عندما تكون منشغلا. أنا أيضا أتحامل على نفسي، ولا أفعل غير هذا حتى، حدّ الانفجار، حد الارتطام بالسقف. حتى موتي، كأنّه سيحدث لك"!