الفيدرالية السورية والرفض الدولي .. نقاش مع رانيا مصطفى
نشرت صحيفة العربي الجديد يوم السبت 17/7/2021 مقالة للكاتبة رانيا مصطفى بعنوان "فيدرالية سورية مرفوضة دولياً"، تنطلق من معالجتها قضية فدرلة سورية، استناداً إلى بعدين: دولي وهو الأهم وفق المقالة، "إن الواقع السوري بات محكوماً بالأجندات الدولية المتنافسة". والثاني الديموغرافيا السورية التي ذُكرَت سريعاً في المقالة. حيث تستنتج رانيا من تحليل المواقف الدولية من الدولة والجغرافيا السورية إجماعاً دولياً على رفض الفدرلة في سورية، في مقابل تشجيعها صهيونياً، "وحدها إسرائيل تشجع الانقسامات القومية والطائفية في المنطقة، لكون هذه الانقسامات تتناسب مع هويتها العنصرية". وهو ما يتطلب نقاشاً متأنياً ودقيقاً يميّز بين الأهداف والتصريحات الدولية، كي نبني تحليلاً علمياً وواقعياً لمجريات الأمور، بعيداً عن لغة الخطابة والتمنيات.
ولتكن البداية من تحليل المواقف والأهداف الدولية من سورية. من حيث المبدأ، لم تقف أميركا، الدولة الإمبريالية العالمية في مواجهة فدرلة العراق المحتل منها ومن إيران، بل على العكس شجعت وما زالت تشجع تفكيك الدولة العراقية إلى أقاليم فيدرالية، كي يسهُل عليها التحكّم به ونهب ثرواته وعرقلة مسار نهضته وتفكيك بنيته الاجتماعية. وبذلك، تتطابق المصلحة الأميركية مع المصلحة الإيرانية في العراق، فعلى الرغم من مطامح إيران في فرض سيطرتها المطلقة على كامل العراق، وعلى الرغم من تخوّف إيران من تنامي الطموح الكردي الانفصالي داخل إيران، إلا أنها فضلت، كما أميركا، تقسيم العراق إلى مراكز قوى متعدّدة ومتنازعة فيما بينها، بغرض استحكام السيطرة على كامل العراق، فالسيطرة على عراق موحد مهمة أكثر صعوبة من السيطرة على عراق مقسّم جغرافياً واجتماعياً وسياسياً، كما حصل بعد أن احتلته الولايات المتحدة. وهو ما يبدو أن إيران تجاهد اليوم من أجل الحفاظ عليه، في مواجهة الحركة الثورية الاحتجاجية الشعبية العراقية، التي استعادت، ولو جزئياً، الروحية والخطابية الوطنية العراقية العابرة للقوميات والانتماءات الإثنية والعرقية والطائفية.
لكل فاعل من الفواعل الدولية في سورية مطامح في السيطرة على كامل الجغرافيا السورية، باستثناء أميركا
إذاً لا تتعارض مصالح أميركا وإيران مع نظام الحكم الفيدرالي عموماً، بغضّ النظر عن الصعوبات التي قد تعوق تطبيقه، لا بل على العكس تماماً، تتطابق مصالحهم مع هذا النظام كلياً، فهو النظام الذي يعيد توزيع مراكز القوة المركزية بين مليشيات متعدّدة ومتفرقة، ما يسهل السيطرة عليها وربطها مصلحياً بالقوى الإقليمية والدولية، كما حدث في الحالة العراقية بعد الاحتلال، وهي الاستراتيجية نفسها المتبعة في الحالة السورية للأسف، نعم المتبعة الآن، بل ومنذ سنوات عديدة خلت. أما روسيا، فمن السهل تتبع سياساتها داخل سورية، وكيفية سعيها إلى فرض قوى أمر واقع مرتبطة بها ومتباينة فيما بينها، أي لا تعمل روسيا على بناء قوةٍ محليةٍ وحيدة تابعة لها، بل تعمل على بناء قوى متعدّدة ومتباعدة جغرافياً ومتنافسياً مصلحياً يسيطر كل منها على جزء من الجغرافيا السورية، أي تقسيم ميداني. كما في درعا والسويداء والفيلق الخامس، وكما تحاول التوصل إليه بمفاوضاتها مع القوى الكردية المسيطرة، ومع بعض فصائل المعارضة المسلحة في إدلب ومحيطها، بتنسيق مع تركيا أحياناً، وبالخفاء منها في أحيان أخرى. كذلك عبّرت مسودة دستور سورية المقترح من روسيا عن شيء من ذلك في المادة الرابعة التي تتحدث عن أجهزة حكم ذاتي ثقافي كردي، وفي المادة الـ 15 عن الوحدات الإدارية وإحالة تحديد وضعيتها وعلاقتها مع السلطة المركزية على القانون، بما فيها وضعية الحكم الذاتي الثقافي الكردي. أي لا ينصّ الدستور المقترح روسياً على نظام حكم اتحادي أو فيدرالي، كما ينص الدستور العراقي الحالي، لكنه أيضاً لا يضع حدّاً نهائياً لهذا الخيار، بل يُبقي الباب مفتوحاً نسبياً لعودة هذا الخيار، فالنقطة الحاسمة والرئيسية بهذا الشأن تتعلق بمدى قدرة روسيا على فرض قوات أو مجموعات تتبع لها في هذه المناطق، وخصوصاً الكردية.
أما تركيا، فكغيرها من القوى الدولية والإقليمية، تطمح إلى فرض سيطرتها الكاملة على كامل الجغرافيا السورية، وتعمل على تقويض سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي "الكردي" (PYD) الذي تعتبره فرعاً سورياً لحزب العمال الكردستاني (PKK)، لكنها لا تعارض تحوّل سورية إلى النموذج العراقي الاتحادي نفسه، بما فيه مناطق حكم ذاتي كردي مسيطر عليه من أحزاب أو مجالس كردية مقرّبة ومرتبطة بها. ولنا بعلاقتها القوية مع مناطق الحكم الذاتي الكردي في العراق مثال على ذلك، غير أن هناك فرقاً أساسياً اليوم بين المطامح التركية من ناحية، والروسية والإيرانية من ناحية ثانية، حيث تلقت المطامح التركية في سورية ضربات موجعة على امتداد السنوات العشر الماضية، بداية من رفض نظام الأسد اقتراحاتها وحلولها، وصولاً إلى الرفض الإقليمي والأميركي لتبوئها دوراً قيادياً حاسماً في سنوات الثورة الأولى، وأخيراً بعد التفويض الأميركي لروسيا في الشأن السوري، الأمر الذي جعل من حلم سيطرة تركيا على كامل الجغرافيا السورية مستحيلاً، ما دفعها إلى محاولة فرض وجودها مناطقياً على طول الشريط الحدودي وإلى أعمق نقطة ممكنة. وبالتالي، فالتقسيم الجغرافي والسياسي خيار تركيا الوحيد في حماية مطامحها المستقبلية والآنية سورياً.
لا تتعارض مصالح أميركا وإيران مع نظام الحكم الفيدرالي عموماً، بغضّ النظر عن الصعوبات التي قد تعوق تطبيقه
أخيراً، وبما يخصّ المواقف الدولية من فدرلة سورية، يجب أن نلحظ أن لكل فاعل من الفواعل الدولية في سورية مطامح في السيطرة على كامل الجغرافيا السورية، باستثناء أميركا التي تفضل سيطرة مناطقية محدّدة تمكّنها من التأثير لاحقاً في كامل مناطق سورية. ويمكن القول إن مصلحة أميركا في سورية اليوم أكبر وأهم من ذي قبل، خصوصاً إن تمّ الانسحاب أو شبه الانسحاب الأميركي من العراق. لكن على الرغم من المصلحة الروسية والإيرانية والتركية في السيطرة على كامل سورية، لم تتطابق حسابات الواقع مع مطامحهم الأساسية، إذ يصعب على أي منهم فرض هزيمة مطلقة وكاملة بحق المشاريع الدولية الأخرى، ولا سيما في ظل ميل أميركا نحو خيار تقاسمي بينهم يحفظ لروسيا الحصة الأكبر. وهو ما يفرض تحوّل سورية اليوم إلى ما يشبه الكانتونات المفصول بعضها عن بعض قسرياً، يخضع كل منها لهيمنة طرف مغاير عن سيطرة المناطق التي تجاوره، وهو ما ينمّي من مطامح التمدّد أيضاً، إذ يأمل كل طرفٍ حدوث متغيرات محلية أو إقليمية أو دولية، تمكّنه من قضم مناطق جديدة مستقبلاً.
في النهاية، لا بد من الإشارة إلى أهمية العامل الذاتي السوري، فهو العامل المحوري في مسار رفض الفدرلة أو التقسيم ومقاومتهما، وإن كان اليوم مغيباً أو متراجعاً، وذلك لأسباب عديدة ذكرت بعضها مقالة رانيا، فيما لم يجرِ التطرّق إلى غالبيتها، كما لم أتطرق إلى هذا البعد المهم الآن من أجل توضيح المطامح والاستراتيجيات الدولية تجاه سورية، فإدراك هذه الاستراتيجيات ضرورة ملحّة اليوم، مقدمة من أجل بناء استراتيجية وطنية تحرّرية سورية تواجههم جميعاً مجتمعين ومنفردين.