الفرجة المتأسّية على الزلزال

16 فبراير 2023
+ الخط -

مرّ أكثر من أسبوع، وما زالت صور ضحايا الزلزال في تركيا وسورية المبللة بالماء والدموع تلوح لنا كلما يمّمنا شطر أي وسيلة إعلامية، فنجد أنفسنا، نحن الذين نجلس على مقاعد المتفرّجين، وإنْ بأسى، نشارك في انتهاك الخصوصيات واقتحام المساحات الدقيقة لهؤلاء الضحايا من الأحياء والأموات، وكأننا بمجرّد الفرجة المتأسّية نؤدّي دورا إنسانيا لنا يساند ضمائرنا المتأرجحة ما بين الموت والحياة.

أفهم بالتأكيد أننا، نحن العاملين في الصحافة، نلجأ إلى تصوير المآسي ونشرها أخبارا، لكنني ما زلت لا أفهم هذا الشغف المتوحّش الذي ألمّ بمعظم الناس، منذ انتشرت بين أيديهم الهواتف ذات الكاميرات لتصوير كل ما يقابلونه من قبح، ونشره على الملأ وكأنه انتصار، لكن هذا الانتصار نفسه يمكن النظر إليه كهزيمة لحقيقتنا نحن البشر عندما نتبادل الأدوار بيننا، فتقف الضحية موقف المتفرّج عليها والعكس!

في زلزال تركيا وسورية الذي أودى أخيرا بحياة عشرات الآلاف من البشر، وشرّد آخرين أكثر كانت المأساة أكبر من تجاهلها، وأخطر من التقليل من شأنها، وحتى أوضح من كل توضيح ممكن بالكتابة أو التصوير. ومع هذا، كان شغف الناس يتزايد لتصوير كل شيء تقريبا ونشره، أحيانا للضرورة، أحيانا أخرى لمجرد ملء فراغات الفرجة والتلصّص الفضولي وحسب. أزعجني جدا ذلك الإمعان الشديد في تصوير التفاصيل المأساوية القاتلة في عيون الصغار والكبار، وتسجيل تلك الكلمات التي ينطق بها الناجون في لحظاتهم نحو الحياة من جديد.. خارجين من قبورهم المؤقّتة تحت الأرض، فيقولون ربما ما لا يودّون سماعه في بقية أعمارهم، وليس لأحدٍ الحقّ في تسجيله، وبثه على الناس أجمعين وإلى الأبد تقريبا. ولكنهم مع هذا وجدوا أنفسهم ضحيةً من جديد للكاميرات الصغيرة والكبيرة، وهي تكاد تُحصي عليهم أنفاسهم التي بالكاد يستطيعون إخراجها من تحت الركام، وتستنطقهم في ما تبقى لهم من فسحة للصمت.

أعرف أن كثيرين يبرّرون هذا بالضرورة الصحافية، وأتفهم، بالتأكيد، بحكم أنني صحافية، تلك الضرورة وحدودها أيضا، لكنني لم أعد قادرةً على فهم ما يجري في تلك اللحظات القاسية بظروفها وتفاصيلها وانكشافاتها على الآخرين. وأنا أتخيّلني، كإنسان وحسب هذه المرّة، بدلا منهم. ولا أحد بمنجاة من المصير نفسه في زلزالٍ أو حريقٍ أو حادثٍ مروري، أو غيرها من الحوادث التي تفاجئنا، فلا نكاد نستطيع التصرّف قبلها بإعطاء الإذن للآخرين، كي يتّخذونا مادة لفرجتهم، حتى ولو أدّت تلك الفرجة المفاجئة والواسعة إلى التعاطف مثلا.

لا أعرف إن جرّب أحد سؤال الناجين من حوادث سابقة، قبل الزلزال، على سبيل المثال، من الذين انكشفوا على العالم كله في لحظات ضعفهم المفاجئة لهم وللعالم، إن كان الأمر قد أسعدهم أم أحزنهم أم لا؟ وإن كان قد أسعدهم أو ساعدهم في لحظة ما، هل استمرّت تلك السعادة أو المساعدة دائما؟ ماذا عن شعورهم بعد سنوات طويلة مرّت على الحدث الذي توثّق في أعين الآخرين وغيرهم من المتفرّجين الجدد إلى الأبد؟

لم أمرّ شخصيا بمواقف كهذه، ولم أعش تجربة أن أنكشف بهذا الضعف أمام من لا أعرف حول العالم حتى الآن على الأقل ولله الحمد، لكنني أستطيع تخيّل ما قد يحدُث، فأرى أن لحظات مثل تلك اللحظات ذات الطبيعة الخاصة، والتي تكشف هشاشة المرء وتجرّده من كل مظاهر القوة الخارجية لديه تقريبا، ينبغي أن تكون بمعزلٍ عن فعل الفرجة لأي سببٍ كان.

نعم .. هي ضرورة أحيانا، لكن هناك طرائق عديدة وحلولاً كثيرة يمكن اللجوء إليها في تصوير البشر وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة نحو الموت، أو وهم يستعيدون كامل حياتهم التي كادت أن تذهب، بما يحفظ لهم كرامتهم الإنسانية، ويمنحهم حقهم الكامل بتقرير مصير تلك اللحظات الدقيقة ... والأمر يستحق التفكير فعلاً.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.