الفتح الإسلامي استعمار في زمن التراجعات
كنّا، منذ زمن، نسمع عن قضية في العلم والنقاشات المعرفية تحمل مسمّى المراجعات، ولم نكن نعرف منها إلا أنها جدلية منطقية للتراكم العلمي، كلما تقدّم بنا الزمن، تتعرّض النظريات فيه للنقد، ثم يأتي من يبني عليها، لتقديم ما أضحى يعرف بالتجديد. ولكن هذا، قبل أن تصبح تلك المراجعات تراجعات، ونقدا ليس كالنقد، بل تغييرا للعقـل ونبذا للماضي، بكل ما يحمل من نصاعةٍ بقيت لنا لنفخر بها في زمن الهزائم المتتالية والتراجع، بل التردّي المستمر، على كلّ المستويات والصُّعد.
لا يمرّ علينا يوم من دون أن نسمع عن مؤسّسة، شخصية، أو مُدّع للعلم باحث عن شهرة وهو يرمي مرجعيات الأمّة، محاولا أن يصيب عقلها الجمعي في مقتل، حيث سمعنا، قبل فترة، عن قدس غير القدس التي نعرفها من أديبٍ لا يعرف من الأدب إلا بعض كلمات يُقال إنّه سرقها من أديب آخر بسيط، ثم سمعنا عن وجوب الاعتذار عن الفتوحات الإسلامية من مدّع آخر للعلم، ينتمي لمؤسّسة عريقة في العالم الإسلامي، وصولا إلى وصف دار الأوقاف المصرية فتح القسطنطينية، قبل أشهر، احتلالا، منتظرين أن يُطلّ علينا، وقد فعل أو كاد، من يقول لنا إنّ فلسطين أرض لليهود فلماذا ننازعهم إيّاها، بعد أن وصموا كلّ مقاومة بالإرهاب، ووصفوا كلّ من صال وجال ضدّ المحتل، المستعمر أو المستوطن، بأنه جهادي/ إرهابي، نحتاج أن نطأطئ رؤوسنا، معتذرين، بسببه، أمام الأجانب، وأن نكون، يوما، شارلي، نسبة إلى من قتل، في فرنسا رسّامين كاريكاتوريين يعملون في مجلّةٍ فنية، تحمل الاسم ذاته. أو، يوما آخر، فلويد، نسبة إلى الرّجل الأسمر الذي قتله شرطي أبيض، في أميركا، بعد عملية خنق دامت قرابة تسع دقائق لتنتفض الولايات المتحدة ومدن العالم، بعدها، تنديدا بتجاوزات يقترفها رجال الشرطة على المستضعفين والمواطنين من الأقلّيات في أكثر من بلد.
لماذا تكون الدّيمقراطية حلالا والحرية كرامة لغيرنا، ثم عندما تصل إلينا تكون مشوّهة أو يتمّ الانقلاب عليها؟
نقول تسع دقائق، بالتّدقيق، لأنّ ثمّة من ركّز عليها وأقام لها التأبين احتراما لذكرى الرّجل الأسمر الذي ذهب ضحية العنصرية المقيتة في أميركا، وحُقّ له ذلك، وهو الضّحية. ولكن، وهنا المحك، من للفلسطينيين وللأمّة، كلّها، بعد أكثر من 70 عاما من سلب أرض الإسراء والمعراج وأولى القبلتين وثالث الحرمين؟. لماذا يغيب العالم عن جرائم تُقترف على أراضي الأمّة من يمنٍ كان، يوما ما، سعيدا وهو، اليوم، تعيس، يُدكّ على أهله دكّا، أو من لليبيا عمر المختار التي اجتمع العالم على نصرة من يمثّل فيها صورة العسكري الديكتاتوري، ثمّ، بعد هزائم متتالية له، يرفع داعموه راية مبادرةٍ مضمونها إمّا كرسي الحكم أو التّقسيم؟ ولماذا تكون الدّيمقراطية حلالا والحرية كرامة لغيرنا، ثم عندما تصل إلينا تكون مشوّهة أو يتمّ الانقلاب عليها، كما تمّ في مصر الكنانة، وتصبح البطّة ليست بطّة، أي الانقلاب ربّما لا يكون انقلابا، في بلد العربان، وفق وصف عسكري أميركي ومتسابق سابق إلى البيت الأبيض، جون ماكين؟ أو في سورية والعراق التي قتل فيهما الملايين باسم نشر الدّيمقراطية أو مشاريع تهديم الدّولة مع نصرة للمحتلّ الدّاخلي والمؤيّد، بل المؤيّدين، من الخارج؟
تلك أسئلة، وغيرها كثير، ممّا يختلج في صدورنا، ونحن نشاهد صورا تفرح القلب لأنها، في النهاية، انتصار للإنسان، بالمفهوم الغربي، لحقوقه المسلوبة أو لطريقة الاعتداء عليها، أيا كانت، التي نراها، نحن، يوميا، دونما حسيب أو رقيب، بل بتأييد من ذلك الذي يخرج، اليوم، رافعا صوته ومندّدا بالغربي يقتل، لكن متناسيا، أيّما تناسٍ، بأنّه من أسهم في قتل الملايين، دونما اكتراث، من أبناء أمّةٍ أخرى تدين بغير دين الغرب، تتحدّث بغير لغاته، وربّما، كانت، من غير لون بشرة الإنسان الغربي، لأننا جميعا نتذكّر أنّ تدمير العراق إنما جاء على أيدي رايس، وزيرة الخارجية السمراء والراحل كولن باول، حامل الصفة نفسها، الأسمر هو أيضا، وبمقاربة الكذب على شاشات العالم، في مجلس الأمن، في 2003، لإعلان الحرب، لأنّ دكتاتورا اسمه صدّام، سام شعبه كل صنوف العذاب، يمتلك أسلحة ذات دمار شامل ليصير الدمار شاملا لكل العراقيين، بما يناهز مليوني قتيل على مر 15 سنة من نشر للديمقراطية واستمتاع العراقيين بالكرامة، وأيّ كرامة.
العنصرية التي يشتكي منها الأميركيون من أصول أفريقية نعاني، نحن، منها كلّ يوم أضعافا مضاعفة، ليس بعيدا عن لحظات قتل جورج فلويد، كانت شرطة الاحتلال الصهيوني تقتل، في القدس، فلسطينيا من ذوي الاحتياجات الخاصّة، مصابا بالتّوحّد، لمجرّد الاشتباه بأنّه كان يحاول الهجوم على الجنود، وهو زعم ذهب ضحيته آلاف من الفلسطينيين، من دون أن يكون لهم ذكر على صفحات الجرائد، أو تنويه لقتلهم على شريط عواجل القنوات الإخبارية التي هاجت وماجت في أثناء الهجوم على مجلّة شارلي، في باريس، في 2015، أو تكون كذلك لجندي صهيوني يُقتل أو رهينة غربية تُختطف، وكأنّما هم بشر، ونحن لا بواكي لنا، وفي حال من اجتمعت الأمم عليه كما تجتمع اللئام على طبقٍ مُلطّخ بالدّماء؟
علاقة وثيقة بين مسارات هوان الأمّة وتكريسه في الواقع بالدّيكتاتورية، من ناحية، والتّمكين لمرجعيات وقيم غريبة عن واقع الأمة وتاريخها، من ناحية أخرى
طبعا، نحن، هنا، لا نشجّع على الإرهاب، ولا نبرّر له، ولا لمقترفيه، ولكنّنا نطرح، مجرّد طرح، أسئلة تكاد تطبق على صدورنا، ونحن نرى هواننا على الأمم وقيمتنا في العالم، لأننا نقع في قلب قوس الأزمات، نسكن بلدانا هي مكمن الإرهاب ومواطن للتطرّف، كما نحتلّ الصّفوف الأخيرة لمؤشّرات حقوق الإنسان، الحرّية، الكرامة والدّيمقراطية؟ طبعا مؤشّرات، الغرب هو من يضع مقاييسها ويعتبرنا، اليوم، معتدلين، وغدا، ربّما، نصبح، وفق مصالحه، متطرّفين .. يوما يدعونا إلى الانتخابات والاحتكام لصوت صناديق الاقتراع، وعندما تقرّر الأصوات، وتُفرز من لا يرضون عليه، يصبح الصندوق نفسه سببا في تدمير بلد (الجزائر)، حصار شعب (غزة) بل انقلابا وقتلا للشّرعية (مصر).. وهكذا دواليك... من دون أن ننسى التّبرير للثورات المضادّة، مصطلحا لا يوجد إلا في بلد العربان، نحاسب به من سوّلت له، يوما، رفع الصوت بشعار "الشّعب يريد إسقاط النّظام"، وربمّا أمثلة سورية، اليمن وليبيا تكفي وإلا نورد أمثلة أخرى على غرار مثال المملكة التي يسعى النّظام فيها إلى تقطيع من يريد الإصلاح، بالمنشار، أو مثال الإمارات التي نصّبت نفسها زعيمة للشرّ، مدبّرة للانقلابات ومموّلة للحروب. عالم هكذا يسير وبغرب يساند سياسيا، ويدعّم تسليحا بل وينافح ويدافع استراتيجيا عن هؤلاء جميعا.
قال أحدُهم، تهكّما، كلما رأيت ما يحدُث من مسارعة بعضهم إلى التطبيع، وما نراه من مسارعة إلى تغيير طبيعة المرجعيات، شكلها ومضمونها، كلما ندمت على أنني لم أحج، لأن الخوف هو أن تبرّر، يوما ما، عودة الأصنام إلى الكعبة، بحكم أن فتح مكة عمل غير نظامي أو إرهابي، بل لا يلائم قيم من نريد التطبيع معهم.
نقع في قلب قوس الأزمات، نسكن بلدانا هي مكمن الإرهاب ومواطن للتطرّف، كما نحتلّ الصّفوف الأخيرة لمؤشّرات حقوق الإنسان
كيف يحدث هذا، ولتجسيد أيّ أفق في المعاش الثقافي/ المعرفي/ الحضاري للأمّة؟.. سؤال يظلّ يطرح، ولا جواب له إلا بعض المؤشّرات لقيم تتغير، وأخرى تحضر لتكون البديل عن مرجعياتٍ تشكّل كوابح أمام حاملي لواء التّطبيع/ التغيير المغشوش، لكنه المراد في المنظور القريب أو متوسط المدى؟ هناك مسلّمات للحفاظ على العروش وكراسي الرّئاسة بدأت في البروز في شكل مقايضة بين واقع يجب أن يزول، بمضمون المرجعيات المكرّسة، بقيم يتولّد عنها واقعا يجب أن يستلم زمام الأمور، بمضمون البديل، عن كلّ المرجعيات، ومن ذلك انطلق مسار التمكين لمشروع تجديد الخطاب الدّيني، ولمراجعة مضمون التّعليم بكلّ مستوياته بنزع قيم المعاداة لأعداء الأمّة، حتى لو كان ذلك آيات قرآنية أو أحاديث نبوية شريفة، فضلا على أن يكون ذلك أحداثا تاريخية أو جغرافية محدّدة معروفة.. على غرار الفتوحات الإسلامية التي تحدّث أحدهم عنها، أخيرا، بأنها تستدعي الاعتذار، أو ما ذكرناه من محاولة تزييف وقائع التّاريخ ووصم شخوصه بشر ما تمّ وصمهم به من المستشرقين، وكأننا على موعد مع استشراقٍ جديد يولد عندنا و يدلّس/ يدنّس مرجعياتنا لتكون النّتيجة أنّه لا يهاجمنا تيّار وافد، بل من بني جلدتنا في مشهد يصنع الغربة الحقيقية عن قيم الأمة ومرجعياتها، تستوجب يقظة للهمة وإيقاظا لهمها، عاجلا وليس آجلا.
في الحقيقة، هناك علاقة وثيقة بين مسارات هوان الأمّة وتكريسه في الواقع بالدّيكتاتورية، من ناحية، والتّمكين لمرجعيات وقيم غريبة عن واقع الأمة وتاريخها، من ناحية أخرى، وهي العلاقة التي يجب أن تفكّك بمشاريع إعادة انبعاث الأمّة، بما يُتاح من موارد وأدوات قد يكون منطلقها القيام بجهد التفنيد لتلك المرجعيات الجديدة والقيم البديلة، وبالسّعي نحو رفع الغبن والهوان عن الأمة .. وتلك قصّة أخرى.