هنري ليفي ودوفيلبان... معركة المثقّف المُدلّس والسّياسي الشّريف
نشب في فرنسا صراع سياسي وإعلامي بين وجهتَي نظر متناقضتَين تجاه القضيّة الفلسطينية، وقضايا أخرى كثيرة، حاول برنارد هنري ليفي، الفيلسوف المُدلِّس، وفق وصف باسكال بونيفاس له في كتابه "المثقّفون المُدلِّسون"، الوقوف فيها منافحاً عن مشروع طالما دافع عنه، يضع في أولويّاته انتماءه وولاءه للكيان، حصرياً، ثمّ محاولة المشاركة في منع دوفيلبان من استكمال بناء مشروع طموحاته السّياسية لرئاسيات 2027، وهو ما ستحاول المقالة كشفه في نقاط محدّدة، تعريةً لمواقف المثقَّف المُدلِّس، ونصرةً لسياسي شريف، أظهر مواقفَ مساندةً لأهلنا في فلسطين برفقة زعيم "فرنسا الأبية" جان لوك ميلانشون، الذي كال له ليفي الاتّهامات ذاتها بمعاداة السّامية الحديثة، وفق آرائه.
بدا برنارد هنري ليفي، في اللّقاء التّلفزيوني في إحدى القنوات الإخبارية، قلِقاً ومتسرِّعاً في كيل الاتّهامات لزعيم حزب فرنسا الأبية، الذي يواصل هجومه عليه، بدعوى أنّه لم يكن صريحاً في وصف ما وقع في 7 أكتوبر (2023)، أي هجمات كتائب الشهيد عزّ الدين القسّام، والفصائل الفلسطينية، على غلاف غزّة، بأنّه عمل إرهابي، إضافة إلى وقوف ميلانشون، ووجوه "فرنسا الأبية"، موقف المنتقد لما اقترفته يدا الكيان من جرائم إبادة، لكن هذه المرّة، وفجأةً، زجّ ليفي باسم الوزير الأوّل الأسبق دومينيك دوفيلبان في الحديث، وكال له الاتّهامات بمعاداة السّامية وبأنّه، و"فرنسا الأبية"، طرفان لا يكتفيان بمهاجمة الكيان فقط، بل هما من يتسبّبان في ارتفاع (وفق رأيه) عدد الأحداث التي (بزعمه) تقع في فرنسا، وتُصنَّف أعمالاً مُعادية للسّامية من جرّاء ما يجري في الشّرق الأوسط، وبدعم من أطراف عُدَّ فيها ميلانشون ودوفيلبان.
شكلاً، تُبرِز القنوات الفرنسية شخصية هنري ليفي، وهي تعلم أنّه صاحب مهمّة، يأتي إلى الجمهور ليلقي قنابلَ إعلاميةً وأغلوطاتٍ ثقافيةً تخدم مشروعه في التدليس على الفرنسيين وعلى الرّأي العام الغربي، إذ يعمل في جبهتَين: الأولى منهما خاصّة ينافح فيها عن قضايا له فيها مداخيل، ويدير من خلالها شركاته الخاصّة، سواء منها التي تخصّصت في الإعلام وإنتاج الأشرطة الوثائقية لصالح قنوات ومؤسّسات إعلامية، أو تلك التي تعمل في إطار علاقات مشبوهة مع شبكات بيع الأسلحة، وتأجيج الصّراعات عبر العالم، من ليبيا إلى اليمن، ومن الصُّومال إلى أوكرانيا، من دون إغفال أدواره المشبوهة رفقة تلك الشّبكات في مناطق متعدّدة من القارّة السمراء أو في العالم العربي، خصوصاً في أثناء "الرّبيع العربي" والثّورات المُضادّة.
تُبرِز القنوات الفرنسية شخصية هنري ليفي، وهي تعلم أنّه صاحب مهمّة، يأتي إلى الجمهور ليلقي قنابلَ إعلاميةً وأغلوطاتٍ ثقافيةً تخدم مشروعه في التدليس على الفرنسيين وعلى الرّأي العام الغربي
من النّاحية المضامينية، ثمّة ثلاث نقاط، على سبيل المثال لا الحصر، يمكن تحليلها لكشف ذلك الدّور، وصولاً إلى دواعي هجومه على دوفيلبان، فجأة ومن دون سابق إنذار. أولى تلك النّقاط، متعلّقة بادعائه أنّه فيلسوف، وأنّ موقعه في النُّخبة المُثقّفة الفرنسية تستدعي منه تلك المواقف، وهي مغالطة، إذ لا ينافح المُثقّف الحقيقي من منطلق مواقف سياسية، بل من منطلق مواقف فكرية، ولهذا أدرجه بونيفاس ضمن المثقّفين المُدلِّسين، فلا عمق لما يقوله ثقافياً، بل الجميع يتحدّث عن مستواه ومستوى ما ينتجه من فِكَرٍ وكتبٍ، إذ هي دون ذلك الصّخب الإعلامي الذي يصاحب نشرها، وما استقبال البلاتوهات التلفزيونية إلا جزء من تلك المسرحية، التي رفعت من شأنه من دون أن يكون في مستوى من هم أفضل منه مستوىً على غرار الفيلسوف ميشيل أونفري صاحب كتاب "انتحار الغرب"، أو بونيفاس نفسه، صاحب التّحاليل الجيوسياسية الراقية والمحايدة، وهو محاصر منذ أعوام، ترفض دور نشر كثيرة التعامل معه جرّاء كشفه دور برنارد هنري ليفي في التّدليس على الفرنسيين، وأنّه غير مثقّف ولا فيلسوف.
ثاني المحطّات لتدليس برنارد هنري ليفي مسار القضايا التي يدافع عنها، التي لا تغادر مُربّع الصّراعات التي تجني (وهي مفارقة) بعض الشّركات أرباحاً في تأجيج العمليّات العسكرية فيها، ولهذا تراه على بلاتوهات تلك القنوات الإخبارية، يبرّر تلك الصّراعات، ويعمل على أن تبدو صراعاتٍ من أجل الحرّية، وبأنّ ما يجري فيها من إسناد عسكري لجهات بعينها، هو إسناد إنساني ودعم لوجيستي لتجنُّب المجازر واحتواء آثار الحرب، لتكون هذه مغالطة أخرى، إذ إنّه يختار دوماً صراعاتٍ بعينها، فيرتبط وجوده فيها بشركات مشبوهة، كذلك فإنّ القضايا التي يرتبط اسمه بها، قضايا تبرز فيها بعد حين رائحة تجّار الأسلحة وعرّابي الموت وصانعي الإرهاب، تماماً مثل ما حدث في طول العالم العربي وعرضه في أثناء "الرّبيع العربي"، خصوصاً في ليبيا.
يختار ليفي دوماً صراعاتٍ بعينها، فيرتبط وجوده فيها بشركات مشبوهة
أمّا ثالث المواقف التدليسية لبرنارد هنري ليفي، فتتمثّل بتحيُّنه ذكرى 7 أكتوبر (2023) ليوجّه تلك الانتقادات، لعلّها تغطّي مسألة القوة الغاشمة وجرائم الإبادة التي ردّ بها الكيان على عمليّات "القسّام"، فاختار أن يكون دوفيلبان صيده لتحقيق أكثر من هدف، ما يبيّن أنّ فُجائية التّهجُّم إنّما كانت في انتقاله غير المبرّر من انتقاد زعيم فرنسا الأبيّة إلى الزّج باسم الوزير الأوّل الأسبق الفرنسي في الحديث، في حين أنّ العبارات كانت مُحضَّرةً سلفاً، وذكْر اسم دوفيلبان كان مقصوداً، فشكلاً لم يكن الصحافي منزعجاً، كما لم يظهر علامات التّعجُّب، وكأنّ الأمر كان مدبَّراً، باعتبار أنّ القناة يمينية وتعمل منذ فترة لترويج خطاب يبرّر جرائم الإبادة، كذلك إنّ خطابها أو خطّها التّحريري يتناسب مع شكل خطاب ليفي وروحه.
لكنّ السؤال الأكثر أهمّيةً هنا، لماذا اختار برنارد هنري ليفي هذا التّوقيت بالذّات للتّهجُّم على دومينيك دوفيلبان؟ ... طبعاً، لا يمكن الاعتقاد بأنّ ليفي عمد إلى انتقاد دوفيلبان بسبب موقفه المناقض للكيان ولجرائمه، ولمحاولات إعادة تشكيل النّظام العالمي بأوامر أميركية ووكالة حصرية في الإقليم للكيان، بل التخطيط كلّه جاء ليحبط مشروع دوفيلبان لرئاسيات 2027، باعتبار أنّ المُخطَّط هو لإيصال رئيس يميني في سيرة ماكرون الذّاتية، ولعلّه يكون الوزير الأول الأسبق لماكرون، أي إدوارد فيليب، بالنّظر إلى خطّه السّياسي، وخطابه، الذي برز منهما أنّه يحظى بقبول لدى الدّوائر المالية التي حظي ماكرون بتأييدها، وأوصلته في عهدتين إلى قصر الإليزيه.
لا ينافح المُثقّف الحقيقي من منطلق مواقفَ سياسيةٍ، بل من منطلق مواقفَ فكرية
يتحدّث الأكاديميون في الولايات المتّحدة عمّا يطلقون عليه "المُنعرَج الجديد للنيوليبرالية"، وهو منعرج يلعب فيه السُّوق المُتغيّر الوحيد، أي المُسيِّر للحياة السّياسية والمدير لها، ولهذا سارعت تلك الدّوائر المالية، في فرنسا بصفة خاصّة، إلى اكتساب مواقع في الإعلام، ومراكز البحث وتشكيل الرأي العام، والقوّة النّاعمة من سينما ومجلّات وجرائد ومنصّات عرض الأفلام التّي ينتجونها، ليكون هذا السياق في تقاطع مع العالم الذي يعيش فيه برنارد هنري ليفي، ويعمل في إطاره لاختيار الرّئيس المقبل لفرنسا، من خلال التموقع (من الآن) في الخطاب الإعلامي والسّياسي، وأولى الضّحايا دوفيلبان، لأنّ خطّه السّياسي وخطابه الإعلامي لا يروقان أميركا والغرب، ويتذكّر الجميع كيف أنّه وقف في مجلس الأمن، في 2003، يُكذّب ادّعاءات كولن بأول (وزير خارجية أميركا الأسبق)، التي كانت تحضّر نفسها لحشد التّأييد لقرار غزو العراق.
طبعاً، لتوضيح الأمر، فإنّ ليفي ليس وحده من انبرى للتّهجُّم على دوفيلبان، بل هناك قناة إخبارية أخرى (يمينية مُتطرّفة) لصاحبها رجل الأعمال بولوري، تولّت تحليل خطاب دوفيلبان، وحاولت إظهاره في ثوب المؤيّد لكتائب القسّام، وللفلسطينيين، والمعادي للسّامية، وهي لم تقم بذلك، تماماً كما فعل ليفي، إلّا لأنّها أيضاً من بين قنوات كثيرة، ومنابر إعلامية، تحاول (من الآن) تشكيل الرّأي العام، بقصد تحضيره لتقبّل قائمة قصيرة من المترشّحين، ممّن يمكن لهم أن يلعبوا دوراً سياسياً يروق اليمين، المنعرج النيوليبرالي، ويكونوا من المدافعين، قلباً وقالباً، عن الكيان، وعن رؤية أميركا لإعادة تشكيل النّظام العالمي الجديد.
هذه هي معركة هنري ليفي الجديدة، ولعلّها انطلقت باكراً، إذ إنّنا على بعد عامين ونصف عام من رئاسيات فرنسا (تجري في إبريل/ نيسان ومايو/ أيار 2025، بالنّسبة إلى الدورين الأول والثاني). ولئن كانت سياسية داخلية فرنسية، لكن في خضمّ التحيز الغربي ضدّ أهلنا في فلسطين وتجاهل جرائم الإبادة، فإنّ أصواتاً لسياسيين شرفاء من أمثال دومينيك دوفيلبان، مهمّة لإسماع صوت القضيّة وعدالتها، ومحاولة إنصاف المواقف الخاصّة بها، وهو التّقدير نفسه الذي يجب أن يحظى به زعيم فرنسا الأبية، ميلانشون في مواقفه.