العِلمُ مقارِعاً الموت
يسمّونها "بداية ثورة صامتة"، تلك التجارب العلمية التي تقوم على حفظ أجساد بشرية بالتبريد، على أمل إعادة إحيائها يوما عندما يتقدّم العلم كفايةً في العقود أو القرون المقبلة، فيتمكّن من تحقيق أمنية خالدة لدى البشر، دحر الموت والقبض على سرّ الخلود. هذا ليس خيالا علميا، فثمّة شركة أميركية تدعى "ألكور، مؤسّسة تمديد الحياة" يديرها أطبّاء وعلماء ومتخصّصون في عدّة مجالات، مقرّها في مقاطعة أريزونا في الولايات المتحدة، تقدّم خدماتٍ ترتكز على استقبال عملاء لا يريدون الاعتراف بأنهم ماتوا، مع أنهم ماتوا بالفعل! عدد "مرضاهم"، كما يسمّون هم زبائنهم، 141، وهم يشرحون أنهم جمعية غير نفعية، هدفها العلم لا الربح، مع العلم أن تجميد الجسد كاملا يكلّف 200 ألف دولار، وتجميد الدماغ وحده، 80 ألفا. الدماغ وحده مع الرأس طبعا، لأنه القادر على إعادة تشكيل الخلايا بأسرها.
هذا وتقول "ألكور" إن عملها تجريبي بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنها لا تعد بفرصة ثانية في الحياة، لكنها توفّر محاولة لإنقاذ الحياة، ذلك أن "الموت الحقيقي" قابلٌ لأن يُعكس. كيف؟ بعد لحظات من إعلان وفاة الشخص طبّيا وقانونيا لا تتجاوز ستين ثانية، يتم وصل الجثمان بأجهزة دعم الحياة الاصطناعية واستبدال الدم بمواد حافظة، قبل نقله من ثمّ من أي مكان في العالم إلى مقرّ "ألكور". هناك يتم إغراق الجسم بمواد كيميائية تسمّى "المواد الواقية بالتبريد"، والتي تبرّد الخلايا إلى ناقص 120 درجة مئوية من دون تكوين جليد. هذه العملية تسمّى التزجيج، يليها تبريد الجسم إلى ناقص 196 درجة مئوية، وتخزينه إلى أجلٍ غير مسمّى في النيتروجين السائل.
ثمّة فيلم تايلاندي وزّعته نيتفليكس، يحمل عنوان "الأمل مجمّدا" (Frozen Hope) يحكي قصة عائلة بوذية قرّرت تجميد الابنة الطفلة ماثرين، أو "أينز" كما يلقبونها، بعد إصابتها بورم في الدماغ نادر وغير قابل للشفاء، أدّى إلى موتها في 8 يناير/ كانون الثاني 2015 ، أي قبل أن تبلغ عامها الثالث. والداها مهندسان طبّيان اتخذا قرارا يأملان أن يمنح آينز فرصة ثانية للحياة. الحقيقة، هو الوالد من اختار هذا الطريق وناضل ليقنع الزوجة، فرضخت بعد ثمانية أشهر من محاولات إقناع حثيثة. ففي البوذية، حين يموت الإنسان، المادة تفنى والروح تذهب لتتجسّد في أجسام كائنات أخرى. لذا فإن حفظ جزء من الجسد، يعني سجن الروح وتعذيبها.
في تبريره قراره هذا، قال الوالد: في اليوم الأول الذي مرضت فيه آينز، خطرت لي هذه الفكرة، تجميد دماغها إلى حين تسمح التطوّرات في التكنولوجيا الطبية بإحيائها من جديد وتركيب جسد كامل لها. وأضاف: "نحن كعلماء، واثقون 100٪ من أن هذا سيحدُث يوما ما، لكننا لا نعرف متى". أكثر من ذلك، لقد دُفع الابن البكر إلى التخصّص في مجال قد يساعده مستقبلا على استعادة أخته، مع اعترافه بأن تجارب حديثة أثبتت أن إذابة الدماغ بعد تجميده، تُتلف جزءا منه ولا تُبقي على أكثر من 0.1% من الذكريات! مع هذا، يخطّط الوالد وزوجته أيضا لحفظ جسديهما بالتبريد، وقد جمعت العائلة كل ما يمكن أن يذكّر الطفلة بأهلها وماضيها، ووضعته في صندوق دفنته في الأرض.
القصة، وإن بدت مؤثّرة في البداية بسبب معاناة طفلة بريئة، فهي ستُصبح مزعجة ومثيرة للإرباك. ما هذا العناد وهذا الإصرار، سوف يتساءل المشاهد، موافقا الراهب البوذي الذي علّق: إذا قبلوا حقيقة الفناء، سينسون حزنهم... أما هم، فلا ندري ما الذي يحرّكهم فعلا بعد أن رزقوا بأطفال آخرين، فيما هم يرهنون مستقبل عائلة بأكملها، بمصير طفل بائس غادر الحياة وقد يودّ أن لا يعود.