العراق... ما عدا ممّا بدا؟

21 فبراير 2024
+ الخط -

يبدو أن الأمل قد تضاءل أمام رئيس حكومة العراق محمد شياع السوداني كي يحظى بفرصة أن يستقبله في البيت الأبيض الرئيس الأميركي جو بايدن، في لقاءٍ كان معقودا عليه أن يفضي إلى نتيجة يتضح من خلالها مسار العلاقة بين العراق والولايات المتحدة التي قال العراقيون إنها ستنتقل إلى صيغة "شراكة ثنائية"، بدلا من صيغة "التحالف" القائمة حاليا. ولكن ما يمكن تصوّره طبيعة المواجهة التي كان يمكن أن تجري بين الزعيميْن، لو جرى اللقاء بينهما، والتي تحتمل الدخول في مماحكاتٍ تبعا للخلفية التي يحملها كل طرف، ففي جعبة بايدن ما حدث في الأعوام العشرين الماضية، ابتداء من الغزو العسكري الأميركي للعراق، ومرورا بحقبة العلاقة الذهبية بين رجال الإدارات الأميركية المتعاقبة في تلك الفترة وحكّام بغداد، ووصولاً إلى حقبة السنوات الأخيرة التي هيمنت فيها طهران على القرار العراقي، ودخلت في حربٍ غير معلنة مع إدارة واشنطن، وصلت إلى حد استخدام الأرض العراقية ميدانا لصراع غير محسوب بين الطرفين، أصبحت معه جحافل العساكر الأميركيين، والقواعد التي يقيمون فيها عرضة لضربات المليشيات التابعة للحرس الثوري، وزاد من حدّة هذا الصراع تصاعد التوترات الإقليمية على خلفية حرب غزّة، ودفع حكومة طهران وكلاءها في بغداد للمطالبة بسحب القوات الأميركية التي يشعر الإيرانيون أن وجودها على مرمى حجر منهم، يضاعف من احتمال تدخّلها في بلادهم إذا ما سمحت الظروف بذلك.
وبالنسبة للسوداني، الذي كان سيذهب إلى واشنطن وهو محمّلٌ بأعباءٍ ما كان عليه أن يتحمّلها لو اكتفى من الغنيمة بالاياب، فإن موقعه في إدارة الحكم في العراق كرجل تنفيذي أول يفرض عليه أن يكون المفاوض باسم بلده أمام الأميركيين، في وقتٍ يتيح فيه ذلك لوكلاء إيران وزعماء المليشيات التخفّي وراءه، فإن نجح في ما هو مطلوب منه فسوف يسجّل هذا النجاح في رصيدهم، وليس في رصيده، وإذا ما أخفق سوف يتحمّل وحدَه مسؤولية الإخفاق، عند ذاك يركله "الإطار التنسيقي"، ويقذف به خارج السلطة غير مأسوفٍ عليه، كما فعل مع سلفه مصطفى الكاظمي، ومع غيره من مسؤولي الحكومة الكبار.

الرئيس الأميركي ملزم، لو حصل اللقاء، بمكاشفة السوداني بالتبعات التي سيتحمّلها العراق والعراقيون إذا ما أصرّوا على انسحاب العساكر الأميركيين

وما نقوله هنا عن الدور الذي طلبت إيران أداءه من السوداني ليس من قبيل التخمين أو الرجم بالغيب، إنما هو جزء من ترتيباتٍ أُقرّت في اجتماعاتٍ عقدها قائد فيلق القدس في الحرس الثوري إسماعيل قاآني مع الزعماء العراقيين في أثناء زيارته لبغداد بهدف احتواء الخلاف الذي نشب بين الأطراف الحاكمة بشأن موضوع الانسحاب الأميركي الذي يطالب الفريق المحسوب على إيران بإنجازه، فيما يرى الفريق الآخر المقرّب من الولايات المتحدة أن ذلك سوف يجرّ إلى مخاطر أمنية واقتصادية، ليس أقلها منع العراق من الوصول إلى أموال النفط التي يتحكّم بها البنك الفيدرالي الأميركي، أو إثارة زوبعة أمنية داخل العراق بغطاءٍ أميركي غير معلن، أو فرض عقوباتٍ على أركان الحكم، والتهديد بكشف سرقاتهم من المال العام التي تحتفظ الخزانة الأميركية بأدلّتها الموثقة، وربما يؤدّي ذلك كله إلى إطاحة العملية السياسية الماثلة التي تحوي من الثقوب ما لا يمكن حصرُها. 
وفي خضم هذه التعقيدات، وفي ضوء ما يطرحه الداخل الأميركي من معطياتٍ تتعلق بالتنافس بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وانعكاس ما يجري على الانتخابات المقبلة، يكون الرئيس الأميركي ملزما، لو حصل اللقاء، بمكاشفة السوداني بالتبعات التي سيتحمّلها العراق والعراقيون إذا ما أصرّوا على انسحاب العساكر الأميركيين، ولنا أن نتصوّر لهجة التهديد والوعيد التي سيتحدّث بها بايدن مع السوداني، ونحن نعرف أن أميركا نفسها هي التي جمعت حكّام بغداد بعد ما كانوا يتنقلون بين الأزقّة والمنعطفات، وحملتهم على ظهور دبّاباتها، ووضعتهم في قمّة السلطة، فإذا بهم يتنكّرون لها، ويمحضون الولاء لأعدائها القابعين في قم وطهران، ويبايعونهم على السمع والطاعة، والسؤال الأكثر تعبيرا عن الحال: ما عدا ممّا بدا؟
المؤكّد أن السوداني سيكون محتارا في الإجابة عند ذاك، وهو يعلم أن أميركا هي التي أطعمتهم من جوع، وآمّنتهم من خوف، ولولاها لما كان بإمكان أحد منهم أن يضع قدمه على أرض العراق، بل ولبقي صدّام حسين يحكم العراق حتى الساعة، وهذا ما اعترف به عديدون منهم.
وفي كل الأحوال، ومع تضاؤل الأمل في عقد لقاء مكاشفةٍ بين الرئيسين، يبدو أن لا مناص من أن يبقى العراق، وحتى إشعار آخر، أسير القبضة الحديدية الأميركية، وهذا ما يقوله في السر أهل الحكم أنفسهم.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"