العراق في انتظار ترامب
للمرّة الأولى ربّما، يحظى مجيء رئيس أميركي جديد بهذا القدر من الاهتمام لدى العراقيين، يستوي في ذلك أهل الحكم والمواطنون العاديون، مع اختلاف الدوافع، وكلّ ينتظر منه شيئاً يبرّر اهتمامه. ما حدث على هذا الصعيد أن أهل الحكم، الذين جاءت بهم واشنطن نفسها، شرعوا يتحسّسون رؤوسهم، منذ إعلان فوز دونالد ترامب، خشية أن يكون أمر القبض، الذي أصدروه بحقّه إثر واقعة اغتيال قاسم سليماني ورفيقه أبو مهدي المهندس في مطار بغداد في أثناء ولايته السابقة قد ترك أثراً نفسياً لديه. وزاد الطين بِلّة وجود توافق دولي على حلّ حكّام بغداد المليشيات، بما فيها الحشد الشعبي، ووضع السلاح في يد الدولة، وإبلاغ ترامب لهم (في رسالة خاصّة) بوجوب أن يجري ذلك قبل وصوله إلى سُدّة القرار (20 يناير/ كانون الثاني الجاري)، وإلا فإن احتمال توجيه ضربات عسكرية لفرض ذلك سيكون وارداً، ولذلك انتابهم القلق، وراحوا يتداولون فيما يمكنهم فعله، كي يتفادوا ما قد يحيق بهم إذا ما أقدم ترامب على تحقيق وعيده.
وفي المقابل، انتابت العراقيين موجة حماسة وارتياح على أمل أن يحقّق لهم ترامب ما عجزوا عن تحقيقه لسبب أو لآخر، وأن يعمل على تصحيح الخطأ التاريخي الذي ارتكبته إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش في غزو العراق وتدميره على خلفية كذبة كبيرة، وهم يحفظون له انتقاده تلك الخطوة الشريرة أكثر من مرّة.
وقد حرص رجال الحكم على إخفاء ما ينتابهم من قلق، بعد تسرّب مضمون رسالة ترامب، كي لا يوصمون بعدم القدرة على إدارة الأزمات، كما واصلوا الإيحاء بأن كلّ شيء هادئ في جبهة المليشيات، في الوقت نفسه الذي كانت تجري فيه عمليات نقل بعض الفصائل سرّاً إلى مناطق تجمّعات سكّانية لتلافي توجيه ضربات إليها، وتسليم بعض مواقع المليشيات مع بعض السلاح الثقيل إلى الجيش لذرّ الرماد في العيون، وقد اختار بعض قادتها النأي بأنفسهم عمّا يحدث، وتطمين مريديهم بأنهم خارج اللعبة، وبعضهم اختار الهرب إلى إيران بحجّة العلاج، أو إكمال الدراسة، وفي هذا السياق لوحظ أنهم التزموا الصمت في مواجهة إعلان واشنطن أنها تحتفظ بأكثر من 2500 جندي في قواعدها في العراق، ولم يقولوا كلمة واحدة بعدما كانوا على الدوام يرفعون عقيرتهم بالمطالبة بطرد القوات الأميركية من البلاد، ويهدّدون باستهدافها إذا لم تنسحب، وحتى حكومة الولي الفقيه، التي تحاول اليوم النجاة بجلدها من التبعات، اجتهدت في أن تضع مسافة بينها وبين "المليشيات"، وهي التي كانت تصرخ ليل نهار بأن بغداد واحدة من عواصم "محور الممانعة"، الذي أصبح في حكم الميّت تاريخياً.
انتابت العراقيين موجة حماسة وارتياح على أمل أن يحقّق لهم ترامب ما عجزوا عن تحقيقه
إلى ذلك، يمرّ المشهد السياسي العراقي بحالة من التوتّر والتأزم، انعكست في ظهور عصبية زائدة لدى الفاعلين المحلّيين، أفرزت فقدان البوصلة على نحو واضح، وتراهم يلوذون بهذا الطرف أو ذاك لإنقاذهم من السقوط في الهاوية، أخير ذلك الكشف عن زيارة مرتقبة لرئيس الحكومة محمّد شيّاع السوداني إلى طهران (اليوم الأربعاء)، لوضع الأمر أمام الولي الفقيه، ومعرفة ما يراه بعد إصرار بعض الفصائل المليشياوية على ركوب المركب الخطر، وقيل إنه سيطرح على طهران فكرة حصولها على محفّزات اقتصادية في مقابل التخلّي عن أذرعها في المنطقة، بما يعيد رسم المشهد الإقليمي على نحو مختلف، يحفظ لإيران نظامها السياسي بعيداً عن دائرة الاستهداف، وهذا ما يعتقده السوداني الذي يعمل بوتيرة عالية لتغيير المشهد، بما يمكن أن ينعكس إيجاباً على وضع حكومته، وقد يفتح الطريق أمامه لنيل ولاية ثانية.
أما على صعيد الناس العاديين، فيبدو أنهم غرقى في إرثٍ نفسي واجتماعي أوشك أن يتجذّر في أعماقهم نتيجة 21 سنة عجفاء ذاقوا فيها الأمرَّين، واستسلموا لمقاديرهم، على أمل أن تُحلّ المعجزة يوماً، وها هم اليوم يرون ضوءاً في آخر النفق، ولا يجدون ضيراً في أن تتصدّى واشنطن لإنقاذهم، وهي التي غزت بلادهم، وأسقطت دولتهم الوطنية على النحو المعروف، ولعلّها بذلك تكفّر عن بعض ما فعلته. هنا يحضر قولٌ للمفكّر الأميركي نعوم تشومسكي: "إذا كفّت المؤسّسات عن الفعل، يتطلّع الناس إلى أشياء أخرى، إلى مخلّص، إلى رجل من المرّيخ، أو قد يتجهون نحو التعصّب".
وبالمختصر المفيد، ثمّة حقيقة صارخة لا بدّ أن يعيها المعنيون هنا أو هناك، وحكّام العراق من بينهم، هي أن القوى الكبرى الممسكة باللعبة شرعت في تغيير قواعد الاشتباك بما يتّفق مع مصالحها وأمنها، ولا سبيل أمام اللاعبين الصغار سوى الرضوخ لهذا الأمر، شاءوا أم أبوا.