العراق الآسيوي
أثار انتباهي ما نشرته بعض صفحات التواصل الاجتماعي من صور ومقاطع فيديو عن مطعم باكستاني جديد افتتح في كربلاء، ما يشير أولاً إلى زيادة الزائرين إلى هذه المدينة المقدّسة من الباكستانيين أولاً، وأيضاً انفتاح الذائقة لدى العراقيين لتجربة مطاعم مختلفة، خصوصاً من البلدان الإسلامية.
قبلها انتشرت المطاعم اليمنية في طول البلاد وعرضها، حتى داخل أربيل في كردستان العراق. ورأينا المطاعم السورية تغزو العراق بقوّة. والمشهد كلّه يحيل إلى نوع من الانفتاح في البلد على العالم، وما هو أهم على جواره الإقليمي.
هذا الانفتاح هو من ثمار الاستقرار الأمني النسبي في السنوات الأخيرة، وهو يذكّر بصورةٍ سابقةٍ للعراق، هي بزعمي صورته العميقة، تلك التي ينقل عبّاس البغدادي، على سبيل المثال، نماذج منها في كتابه "بغداد في العشرينيات"، حيث المطاعم الإيرانية والتركية في الكاظمية والأعظمية ببغداد، وتنوّع سحنات الزائرين من عمق آسيا إلى مرقد الكيلاني. واختلاط الأعراق والأجناس والطوائف في حواضر العراق ومدنه لغايات التجارة والسياحة الدينية وغير ذلك.
قدر العراق أنه منفتح على آسيا، ابتداءً من تركيا وايران وما بعدها حتى الهند والصين، وقد شكّل هذا البعد الآسيوي جزءاً مهماً من هويته، بالإضافة إلى البعد العربي الإسلامي، والمحتوى الحضاري الرافديني العميق المتصل منذ آلاف السنين بعادات الطعام والملبس، وحتى في جذاذات اللغة في اللهجات المحكية من شمال العراق إلى جنوبه.
بالطبع، الوعاء الذي تصهر فيه كل هذه المكونات المتنوّعة هو الهوية العربية الإسلامية، ولكن الناتج منه لا يتحدد بمحدّدات العروبة والإسلام حصراً، وإنما ينفتح على أفقٍ من التنوّع، وهو تنوّع لم يكن ملازماً خلال مدار التاريخ العراقي للعدالة وتساوي الحقوق، وغياب الظلم والعنصرية والاضطهاد، ولكن بقاء الغنى في المكوّنات الاجتماعية مع بدايات القرن العشرين يشير إلى نجاح سكّان العراق، بمختلف تكويناتهم، في الحفاظ، خلال مئات السنين، على نوع من "العقد الاجتماعي" في ما بينهم، وأن التمييز أو التضييق على إحدى الجماعات [كما حصل مثلاً مع البهائيين] لم يصل إلى مرحلة الإبادة الكاملة لأحد المكوّنات على أرض العراق. وتشهد التشكيلات الحكومية الأولى مع تأسيس المملكة العراقية (1921)، على حرص واضح لتمثيل كل الجماعات السكانية في السلطة وصناعة القرار.
في عقد العشرينيات من القرن العشرين كانت مرجعية النجف مثلاً أعلى سلطة دينية عند الشيعة في العالم، وكانت مراقد المتصوّفة محجّات للزائرين من كل العالم الإسلامي، حتى المراقد اليهودية لأنبياء العهد القديم الثلاثة، ناحوم في ألقوش، شمالي العراق، وحزقيال في الكفل، جنوبي بغداد، وعزرا الكاتب في مدينة العمارة بمحافظة ميسان، جنوبي العراق. كانت تشهد مواسم أعياد لليهود العراقيين والإيرانيين ومن آسيا وتركيا.
التنوّع الاجتماعي وطرق إدارته الفعّالة، وانفتاح العراق على محيطه العربي والآسيوي، هما أهم النقاط التي أفترض أنها تشكّل هوية العراق، والتي يجب أن يخطط لها ساسة البلد، ويقترحوا البرامج.
في إدارة التنوّع، لا ينفع التضييق وخنق الحريات وغمط حقوق الفئات الاجتماعية، ورفع هراوة الإيديولوجيا والعقيدة لقمع التنوّع، وإفراغ الديمقراطية من محتواها، وإدارة نظام سياسي فاسد، يعتاش على الفساد وينمو به. وفي انفتاح العراق على محيطه، لا مستقبل لرهن العراق بدولة خارجية مهما كانت، ولا ربط سياسات العراق بسياسات دولة مجاورة، أو جعل البلد رهينة للمصالح الأمنية لأي دولة كانت.
انفتاح العراق على ايران، على سبيل المثال، قدر جغرافي وتاريخي وثقافي وديني، والأواصر بين البلدين أكثر من أن تعدّ، ولكن هذا لا يعني علاقة غير متكافئة، وأن تكون صلة إيران بدولة العراق من خلال الحرس الثوري حصراً، وليس المؤسسات السيادية الأخرى. لم تقوِّ عشرون سنة من انفتاح العراق على إيران العلاقات الثقافية بين البلدين، لم نر مسرحاً ولا حفلات موسيقية إيرانية في بغداد، ولا حضوراً في معارض الكتب، ولا مشغولات يدوية، ولا ترجمة للكتب أو وفودا سياحية للمعالم التاريخية، ولا أي ملمح لتنوّع وغنى ثقافة إيران في الحياة العامة العراقية، سوى خطاب التعبئة العقائدية للحرس الثوري.
الشيء نفسه يمكن أن نقوله عن تركيا، فما سوى التبادل التجاري الكبير مع تركيا، لا أثر لتركيا الثقافة والفنون والمراكز الثقافية في الحياة العراقية، والعكس بالعكس. إن جزءاً مهمّاً من ذاكرة العراق ما زال محفوظاً في الوثائق العثمانية، ولم نر أي تعاون أكاديمي مثلاً لدراسة هذه الوثائق أو إقامة معارض لها في العراق.