الظاهرة الاستبدادية ووهم أن إسرائيل واحة للديمقراطية
أثار الاهتمام الكبير لأستاذنا حامد ربيع بالدراسات الصهيونية في وقت مبكر استغرابي، خصوصا مع تنوع هذه الاهتمامات ودراسته الظاهرة الصهيونية، من حيث تكوّنها ونشأتها وتأسيسها ومفردات أيديولوجيتها، وكذلك الممارسات الصهيونية التي تتعلق بطرائق الحكم فيها، ونموذج الممارسة السياسية المرتبط بها، واهتمامه بالدعاية الإسرائيلية، وكشفه ترويجها فكرة ديمقراطية النظام الإسرائيلي. وتوج اهتماماته هذه بكتابٍ عن الدعاية الصهيونية، كما أنه اهتم بتشريح نظام الحكم في إسرائيل، وشكل العلاقات داخل المجتمع الصهيوني المصطنع. ومن ثم، لم يترك فرصة إلا وتحدّث عن تأثير ذلك كله على الرؤية للصراع العربي الإسرائيلي، باعتباره صراعا مصيريا ممتدا، ومؤكّدا على خصوصية هذا الصراع، لمواجهة هذه العنصرية الصهيونية الواضحة والفاضحة. وكان هذا الاهتمام يجعلني، وقد تخصصت كما أستاذنا في النظرية السياسية، لأتأكد كيف أن هذا الأستاذ القدير كان يمسك بتلابيب كل القضايا المفصلية التي تعيق النهوض في عالمنا العربي والإسلامي وتؤثر عليه، وكانت مساعيه بإرساء هذا الوعي الذي يتعلق بالفكرة الصهيونية ليس من باب "اعرف عدوك"، ولكنه كان يتحدّث دائما عن ضرورة بناء القدرة والإرادة لمواجهة هذا الكيان الصهيوني ومقاومته. بل أستطيع أن أقول إنه كان من أوائل من تنبأوا بأنه لن تنال من إسرائيل إلا معارك داخلية تمسّ كيانها، وتشكل عبئا عليها وقدرة على مواجهتها.
في كل مرة يرد على ذهني ذلك الخاطر، أتذكّره لإيمانه بالوظيفة الكفاحية لعالم السياسة ودعوته إلى ضرورة الاهتمام بالدراسات الصهيونية والإسرائيلية، وبالاعتبار الذي يؤكد أن نشأة إسرائيل قد جاءت لتحافظ على حراسة التخلف في بلادنا، ودعم النظم الاستبدادية فيها، ذلك أن حماية هذه النظم واستمرارها لا يمكن أن يدوم إلا في تلك البيئة المواتية من الضعف والوهن التي تصبّ، في النهاية، في قوة ذلك الكيان الصهيوني، على الرغم من ضعفه وهشاشته وعنصرية أفكاره، على الرغم من المبالغة في قوته العسكرية والمادية التي تبدو ضمن عملية دعايةٍ وترويج واسعة لهذا الكيان الصهيوني، وادعاء أن إسرائيل واحة للديمقراطية في بيئة استبدادية في أنظمة الشرق الأوسط، وأن هذا النموذج، على الرغم من عنصريته واصطناعه، إلا أن الحضارة الغربية أرادت، بإسناد ذلك النموذج ودعمه، تحقيق حالة من الهيمنة والسيطرة، من خلال دور وظيفي، تقوم عليه تلك الدولة الصهيونية العنصرية المصطنعة. وبات هذا الأمر تلفه مقولات أغلبها دعائي، ضمن صناعة كبرى تحاول ترويج الكيان الصهيوني والاعتراف به، والمبالغة في قدرته على البقاء، بل وما يمثله من القيم الديمقراطية التي تبشّر بها تلك الحضارة الغربية. وظل الكيان الصهيوني متلقفا ذلك كله، يصنع علاقاته ويحفظ لها الاستمرارية والديمومة في تلك الحضارة الغربية بامتداداتها، ليعبر بذلك عن دعم وحماية لذلك الكيان، ضمن مقولات اصطنعها في قوانينه، مثل معاداة السامية، وغير ذلك من أمور حماية لهذا الكيان الصهيوني وممارساته وإعفائه من المسؤولية والمساءلة الدولية والإنسانية والعالمية.
ليس لدولةٍ محتلةٍ مغتصبة أن تتحدّث عن الديمقراطية
وغاية الأمر في هذا المقام أن نؤكد على تلك الأساطير المؤسّسة للكيان الصهيوني كما أشار إلى ذلك رجاء جارودي، ليؤكد من كل طريق عنصرية هذا الكيان، والتأكيد على أن الصهيونية فكرة عنصرية، وتؤصل لذلك المعنى الذي يكشف ويفضح أن نشأة الكيان الصهيوني، في تأسيسه وفي إعلان دولته، لم تكن إلا تعبيرا عن تلك الحالة العنصرية من جانب، وممارسة من فائض العنف ضمن عمليات إرهاب منظمّة لشعب فلسطين، وارتكاب مذابح جمّة معلومة في هذا المقام، لتؤكد أن ذلك العنف لم يكن أسلوبا فحسب، ولكنه كان عملا بنيانيا مسكونة به الفكرة الصهيونية، ومواكبة معاني العنصرية فيها. برز ذلك واضحا، ليس فقط في تلك النشأة، ولكن في قيام هذا الكيان الاستيطاني المحتل والغاصب للأرض، والذي ظل يمارس تلك السياسات العنصرية في مواجهة الشعب الفلسطيني على مر السنين والعقود. واقترن بذلك سرطان استيطاني منظم وممنهج، يشكّل حالة طغيانية واستراتيجية في اغتصاب الأراضي. وقد كشفت عن هذه المنهجية الاستيطانية، باعتبارها سياسة تتعلق بشرعنة سرقة الأرض واغتصابها؛ واغتصاب البيوت وإنشاء المغتصبات، السيدة الفلسطينية التي واجهت مستوطنا صهيونيا، صارخة فيه إنه يسرق أرضها وبيتها، كان رده "إن لم أسرقها أنا فسيأتي من يسرقها غيري من المستوطنين". وإذا ما تعالت الأصوات بأن ذلك يشكل نقضا لكل مبادئ الشرعية والقرارات الدولية، تغاضى هؤلاء وتنكّروا. وإذا ما أدّى ذلك إلى احتجاجات ومقاومة، برزت دعايات مشبوهة ومغرضة، عن العنف الفلسطيني وعن الإرهاب وعن صواريخ المقاومة، وكأن ليس من حق من اغتصبت أرضه أن يعلن عن إرادته في المقاومة والمدافعة عن أرضه ومقدساته وشعبه.
تحرص الدعاية المغرضة من داخل الكيان، ومن خارجه، على ترويج ما تسميه حق هذا الكيان الصهيوني في الدفاع عن نفسه
يتكشّف زيف الديمقراطية الإسرائيلية التي يريدون لها أن تكون انتخاباتٍ فقط، لا سياسات في عنصرية هذا الكيان، ليس فقط مع فلسطينيي الداخل؛ ولكن كذلك حتى بين فئات الشعب اليهودي وتكويناته في ذلك الكيان الصهيوني نفسه، فليس لدولةٍ محتلةٍ مغتصبة أن تتحدّث عن الديمقراطية، فالاحتلال الاستيطاني الغاصب، وعلى الرغم من تعامله مع الشعب الفلسطيني بتلك العنصرية البادية والطاغية، تحرص الدعاية المغرضة من داخل الكيان، ومن خارجه، على ترويج ما تسميه حق هذا الكيان الصهيوني في الدفاع عن نفسه؛ من دون الحديث عن أصل القضية والممارسات الصهيونية الخطيرة التي تضرب عرض الحائط بكل القرارات الدولية فيما يتعلق بأرض فلسطين والقدس والأقصى وعمليات التهويد المستمرة؛ بل وكذلك تلك الطبيعة الدينية العنصرية التي يستندون إليها في تبرير تلك الحركة الصهيونية وأهدافها، والاعتداء على المقدّسات ضمن استراتيجية استخفاف صهيوني، وفي محاولةٍ للحديث من جانب تلك الحضارة الغربية عن "يهودية الدولة الصهيونية"، ولا ندري أي ديمقراطيةٍ تلك تمارس هذا النفاق الديمقراطي والخداع، فإن أقسى من الاستبداد أن ترتكب كل تلك المداخل العنصرية والاحتلالية بدعوى حماية النفس وديمقراطية الكيان الصهيوني.
الثورات العربية قد أفرزت جناحا مضادّا لتلك الثورات، وداعما للاستبداد في المنطقة
هذا الازدواج في السياسات إنما يشكل أهم قرائن هذا الاحتلال الصهيوني، ومن خلفه الدول الغربية الداعمة له، في عمل مقايضاتٍ ومساوماتٍ مع النظم العربية المستبدّة، ضمن حركة تطبيع متصهينة، تقوم على قاعدة تصفية القضية الفلسطينية، والتغاضي عن تلك الحقوق المغتصبة، حتى أننا نستطيع أن نؤكد أن هذا الكيان الصهيوني وداعميه لهم مصلحة كبرى في تكريس تلك النظم الاستبدادية، طالما قدّمت خدمات لتأمين إسرائيل كيانا وسياسات. ومن المهم هنا أن نذكر أن الثورات العربية قد أفرزت جناحا مضادّا لتلك الثورات، وداعما للاستبداد في المنطقة، ومواجها أي رياح تغيير فيها، فعقدت حلفا ما بين إسرائيل وهؤلاء المستبدّين المتصهينين ضمن صفقةٍ كبرى، تحاول فيها تأكيد أن إسرائيل لا يمكنها أن تبقى إلا في ظل بيئةٍ استبداديةٍ في عالمنا العربي؛ وأن هذا من أهم مداخل تأمين الكيان الصهيوني من جانب، وتمكين هذه النظم الاستبدادية من جانب آخر، فهل هناك معادلة مشبوهةٌ تضمن المحافظة على الكيان الصهيوني العنصري، وتأمينه مع الإبقاء على الحالة الاستبدادية في النظم العربية؟ ينال هذا التساؤل من كل ادعاء بالديمقراطية، والتبشير بها من الكيان الصهيوني ودول الغرب التي تعد أمن إسرائيل بوابة المرور لتلك النظم المستبدّة وبقائها.