الظاهرة الاستبدادية وملاحظات عن الجماعة المسيطرة
كانت النية أن يكون هذا المقال عن أفكار الكتاب المهم الذي تُرجم أخيرا، وعرض له مقال الكاتب السابق في "العربي الجديد" (6/8/2021). وقد حمل الكتاب عنوانا تساؤليا "كيف تعمل الدكتاتوريات؟"، مع عنوان فرعي يشير إلى نقطة الارتكاز في التعامل مع هذا السؤال والاجابة عنه، "السلطة وترسيخها وانهيارها". ولكن مقالا للكاتب عمر كوش نشر في "العربي الجديد" في 13 اغسطس/ آب الحالي، بعنوان "كيف تعمل الدكتاتوريات؟.. ترسُّخ السلطة وانهيارها"، حرص على تناول موضوعات الكتاب بصورة بيّنة وواضحة. وهنا قرر صاحب هذه السطور أن يكتفي بالإحالة إلى هذا المقال المهم، والدعوة إلى الاطلاع عليه، باعتباره قد جاء أوفى مما كنت سأكتبه عن هذا الكتاب، أفكارا وقضايا. وفي الوقت ذاته، يتناول هذا المقال الكتاب من زاوية أخرى، تتمثل في رصد بعض الملاحظات النقدية بشأن مفهوم "الجماعة المسيطرة" الذي يعد أحد مفهومي الكتاب المحوريين، باعتباره شكّل تمثلا محوريا وسندا أساسيا في منهجية التحليل والتفسير المعتمدة في الكتاب، من حيث تعميمه على الظاهرة الاستبدادية لكل أشكالها وتنوعاتها وتمثلاتها الميدانية والواقعية.
الجملة الأساسية التي تشير الى تلك الظاهرة الاستبدادية، والتي جاءت في صدر مقدمة هذا الكتاب، حينما أكّد مؤلفوه أنه قد "عاش معظم البشر في ظل أنظمة أوتوقراطية استبدادية، منذ أن بدأ الإنسان في سكنى المجتمعات المستقرة. وحتى الآن، لا تزال الدكتاتوريات تحكم أكثر من 40% من بلدان العالم، وكل الحروب الدولية التي اندلعت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى كانت الدكتاتوريات طرفا فيها. كما أن ثلثي الحروب الأهلية والصراعات العرقية التي شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية اندلعت في دولٍ ترزح تحت حكم الفرد. ومنذ سقوط جدار برلين، ارتكبت الدكتاتوريات أكثر من 25% من المذابح الجماعية التي قامت بها الحكومات. وبعبارة أخرى، لقد أثرت الدكتاتوريات (الظاهرة الاستبدادية) في حياة ملايين البشر وموتهم أيضا، وتسببت في معظم التحدّيات الدولية التي يواجهها الساسة في العالم". تلك الإشارة المهمة إلى خطورة تلك الظاهرة الاستبدادية تأثيرا ومآلا من المداخل المهمة التي تؤكد أن دراسة هذه الظاهرة والتعرّف على مفاصلها في التعامل مع الدكتاتوريات، وفهمنا المحدود لكيفية عملها، خصوصا أن معظم الدراسات الاكاديمية التي درست كيفية عمل الحكومات في الدول الديمقراطية لم تهتم الاهتمام الكافي بالدكتاتوريات، والتعرف على كيفيات عملها، وأن مجال التعجب في هذا المقام يعود إلى ما أشار إليه مؤلفا الكتاب أن "ليس سرّا أن أسرع الدول نموا في العالم هي دول تعيش في ظل أنظمة دكتاتورية، ولكن أسوأها إدارة لاقتصادها هي دكتاتوريات كذلك.. وأن النظريات المجرّدة التي تتعامل مع الدول الدكتاتورية كوحدة واحدة لا تستطيع إدراك هذه الفروق. ولذلك نحتاج إلى نظريات أكثر واقعية". هذا النقل المطول، خصوصا في خاتمته، يشير إلى جوهر النقد الذي يمكن أن نقدّمه في تلك الملاحظات، خصوصا على مفهوم الجماعة المسيطرة الذي تناوله هذا الكتاب.
لا تزال الدكتاتوريات تحكم أكثر من 40% من بلدان العالم، وكل الحروب الدولية التي اندلعت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى كانت الدكتاتوريات طرفا فيها
كما أننا نتشارك القلق مع أنا جرزيمالا – بوسي، أستاذة العلوم السياسية في جامعة ستانفود وعضو الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم، الذي أبدته في عرضها للكتاب في مجلة "فورين أفيرز"، عدد يناير/ فبراير 2020، عن تآكل الديمقراطية حتى في الدول التي تعد راسخةً في ممارستها، وليس في الديمقراطيات الجديدة فحسب، وتساؤلها "هل استدارت عجلة التاريخ لتسير إلى الخلف؟ وإشارتها إلى أن العالم بات الآن يسير للخلف عائدًا صوب الاستبداد وتقلص مساحات الحرية والمساواة، وكيف عزّز الطغاة قبضتهم على العديد من البلدان، وشهدت العديد من الديمقراطيات صعود قادة وحركات ذوي عقلية استبدادية. هذه الاتجاهات تجعل مهمة فهم الحكم الديكتاتوري ذات أهمية كبرى".
وقد وُفق الطرح الذي يقدّمه الكتاب عن أسباب إخفاق الباحثين عن تحقيق تقدّم في دراسة هذه الظاهرة، مثلما الحال في الديمقراطيات، على اعتبار أن مفاصل الظاهرة الاستبدادية وعملية اتخاذ القرار فيها غالبا ما تحدُث في الظلام، وأنه ليس عليك بالضرورة، إن أردت فهم الآليات اليومية لعمل النظم الاستبدادية، أن تبحث داخل المؤسّسات الرسمية، إذ غالبا ما تتخذ تلك القرارات المحورية داخل مجموعات نخبوية صغيرة في سياقات غير رسمية. ولهذا السبب، إن أردنا تحقيق تقدّم في فهمنا الدكتاتوريات؛ فإننا بحق نحتاج الى أكثر بكثير من المتاح من معلومات، كذلك اتباع أصول منهجية غير التي شاع استخدامها قي الدراسات الاعتيادية. ولعل الأمر أيضا يشير إلى أنه في التطبيق، ومن خلال النظم الاستبدادية المتنوعة والمختلفة، فإن الصعوبة التي تتعلق بالبصر المنهاجي الواضح، وتبصّر الفهم العميق للعمل السياسي في الأنظمة الاستبدادية يكمن في عدم التجانس يين كتلة هذه الأنظمة التي تقع تحت هذه الظاهرة وتنوعها، والنظر إليها ككتلة مصمتة؛ من حيث طرائق صناعة القرار فيها، وكيفية اتخاذ قادتها، وأي مجموعات تؤثر في هذه القرارات، ومن يستبعد منها ومن يدعم النخبة الدكتاتورية، ومن يستفيد من قراراتها.
توضح التجربة المصرية أن الجماعة المسيطرة هي جماعات تتشكّل من أذرع داعمة وفرعية ومؤسسات مختلفة
في ضوء تلك المداخل المنهاجية، سواء تعلق ذلك بهذه الدراسة أو بغيرها، فإن التوقف عند مفهوم، ومصطلح "جماعة السيطرة"، وكما يستخدمها الكتاب للإشارة إلى "المجموعة الصغيرة التي تطيح بالنظم القائمة وتستولي على السلطة مطلقة إشارة البدء للدكتاتورية وكذلك القاعدة المنظمة الداعمة"؛ وأول النقد أن هذا المفهوم يأتي بالمفرد، في حين أننا نرى أنها "جماعات سيطرة" تتكوّن من تكويناتٍ متعدّدة مركزية وخادمة وداعمة ومساندة ومستفيدة. ولعله عند الحديث مثلا على تلك التجربة الانقلابية في مصر نشير إلى كيف مهّدت أحداث 30 يونيو/ حزيران 2013 لهذا الانقلاب الذي تم في 3 يوليو/ تموز 2013، لتشكل بعد ذلك غطاءاتٍ من جماعاتٍ مختلفةٍ استطاعت أن تستخدمها وتوظفها ضمن تلك المشاهد، واستطاعت أن تعتمد عليها في فترة مبكّرة ثم أهملتها وربما اعتقلتها وسجنتها.
أشارت التجربة المصرية إلى جماعات متعدّدة، وفقا لمسار مرسوم مسبقا، مزجت ما بين مفهومي "العصابة" و"المؤسسات المختطفة"، والتي تتحرّك وفق تعليمات وتوجيهات من فئة مسيطرة تحرّك جماعات تشارك في عملية الهيمنة والسيطرة من مؤسّسة عسكرية ومؤسسات أمنية ومؤسسية بوليسية، وحتى تلك المؤسسة القضائية والإفتائية، بل إنها لا تستنكف عن أن تجعل لنفسها ظهيرا دينيا، يصدر خطابا مبرّرا ومسوّغا تلك السياسات الطغيانية الباطشة والغاشمة، وكذلك جوقات إعلامية يتم توجيهها، فضلا عن اجتماع مصالح رجال المال والأعمال المتعاونين مع بؤرة ذلك النظام، يديرها بما يمكن تسميته سيف المعزّ وذهبه. ومن ثم، توضح التجربة المصرية أن الجماعة المسيطرة هي جماعات تتشكّل من أذرع داعمة وفرعية ومؤسسات مختلفة، حتى تشكل، في النهاية، قاعدة ارتكاز في مسارات دعمها وتمكينها.