الضفةُ الغربيَّةُ... الحريَّة خضراء
لا يعود احتفاءُ الفلسطينيين في الضفة الغربية بحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وجناحها العسكري، كتائب عز الدين القسام، وكثرة التلويح براياتها الخضراء، إلى نجاح الحركة بتحرير عددٍ من أسرى الضفة الغربية، من مدُنها ومخيَّماتها، وقراها، والقدس، وإنْ كان هذا التحرير ألهبَ مشاعر التأييد، والفرحة، المنتَزعة، بالنظر إلى المآسي المهولة التي ألمّت بقطاع غزّة، وبالنظر إلى بقاء آلاف الأسرى تحت ظروف فاقَم الاحتلالُ قسوتَها، ووحشيَّتَها، وإنما يعود، أيضًا، إلى قدرة "حماس" على الفِعْل، والتأثير، بالاختراق الكبير الذي حقَّقته في عملية طوفان الأقصى، وما تبعها، من جولة الحرب البرِّية، في قطاع غزة، وسْط ركودٍ طويل، نسبيًّا، عانتْ منه الضفة الغربية، والقضية الفلسطينية، بصفة عامة؛ إذ كرَّست السلطةُ الفلسطينيةُ حالةً أقرب إلى العجْز، على الصعيد السياسي، وترَك وجودُها المعلَّقُ بين آمالِ الدولة المستقلَّة، واستحقاقات العلاقة التي أَمْلَتْها اتفاقيةُ أوسلو، أثرًا مُعيقًا لأيِّ انبعاثٍ شعبيٍّ توّاقٍ إلى الحرية والكرامة، هذا فضلًا عن تردّي الأوضاع الاقتصادية، والمَعيشية، وإشغال الناس بقضايا الراتب الشهري، المتعثِّر، والالتزامات المالية المقلقة، والمُنهِكة.
هذا مع شعورٍ عامٍّ بالخذلان، والاستضعاف، غير المعهود في تاريخ الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال، إذ أظهرت السلطةُ عجْزًا مُحرِجًا ومُوجِعًا، إزاء انتهاكات الاحتلال الاستفزازية، والتي تضاعفت، في الفترة الأخيرة، وحوّلت الضفةَ الغربيةَ إلى منطقة اشتباك غير متكافئ، منذ عملية "كاسر الأمواج" التي أطلقها الاحتلال، في مارس/ آذار2022.
الحماية والتغطية التي يجدها غُلاةُ المستوطنين لم يجد مِثْلَها الفلسطينيُّ من قوات أمن السلطة الفلسطينية
والأنكى من تلك الحملات الاحتلالية التي أضحى جيشُ الاحتلال يكثِّفها، متجاوزًا تعليماته هو، في إطلاق النار، وقتْل أيّ مشتبَهٍ به، بغطاء من حكومةٍ لا تتورَّع، أو تُوارِب، في تسييد وزراء مستوطنين، الأنكى إرخاء الحبْلِ للمستوطنين، بأيديولوجيتهم العنصرية الترانسفيرية، بل توفير الدعم والغطاء لهم، بقوَّات الاحتلال، في أثناء أعمالهم العدوانية الخطيرة، من قتْلٍ، وحرْق، وترويع للفلسطينيين العُزَّل، في أثناء ممارستهم أعمالَهم الاعتيادية، والضرورية، في مزارعهم، وسائر مناشطهم، أو في أثناء تنقُّلهم في شوارع الضفة الغربية، والأمثلة المحزنة حدّ الفجيعة ماثلةٌ في حرْق عائلة دوابشة، في بلدة دوما، جنوبي نابلس، وفي مقتل عائشة الرابي (47 عامًا)، من بلدة بديا (محافظة سلفيت)، حيث لم يمنع وصْفُ حكومة الاحتلال تلك الجريمة بالإرهابية، من تخفيف العقوبة على المستوطنين المتطرِّفين الذين ارتكبوها، وأخيرًا، في هياج المستوطنين التخريبي المتكرِّر في بلدة حوارة (جنوبي نابلس)، وليس آخِرًا، فيما ارتكبه المستوطنون في قرية قصرة (جنوبي نابلس)، حين قتلوا ستَّةً من أبناء القرية، من دون أيّ أسباب، أو مقدّمات.
هذه الحماية والتغطية التي يجدها غُلاةُ المستوطنين لم يجد مِثْلَها الفلسطينيُّ من قوات أمن السلطة الفلسطينية، بل إنها ظلّت، في المجمل، وفيَّةً لدورها الأمني التنسيقي، الذي أصبح نافرًا، وناشزًا، بما لا يسمح بأيِّ تفسيرات مقنعة.
دولة الاحتلال اكتسحت القانون الدولي، في الحرب العدوانية الراهنة على قطاع غزّة، تحت بصر العالم وسمْعه
والحاصل أن السلطة الفلسطينية لم تتمكَّن من حماية الفلسطينيين في الضفة الغربية، سواء من القتل على يد قوات الاحتلال، والاعتقال، حتى في المدن الخاضعة لسيطرتها، أو من اعتداءات المستوطنين التي تجاوزت كثيرًا مجرَّد التنغيص والعرقلة، ولا السلطة تركت الفلسطينيين للعمل على حماية أنفسهم، ببناء بيئةٍ مقاومة، وذلك لأسباب منها تعلُّق السلطة بآمال حمايةٍ دوليةٍ لم تتحقَّق، ولا بوادر على قُرْبِ تحقُّقها، مع أنها لو تحقَّقت ليست مضمونة، فقد جُرِّب شيءٌ منها في مدينة الخليل، ولم تقوَ بعثة المراقبين الدوليين (أنشئت بعد مجزرة الحرم الإبراهيمي المروِّعة عام 1994، بقرار مجلس الأمن 904، تعبيرًا عن الصدمة والإدانة الدولية العارمة من هذه المجزرة التي نفذها أحدُ قادة الحركات الاستيطانية، التي خلَّفت 50 شهيدًا، من المدنيِّين الفلسطينيين الآمنين، وإصابة المئات) على كبْح جماح دولة الاحتلال، ومستوطنيها، هناك، وانتهت برفْض رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، أواخر يناير/ كانون الثاني 2019، التمديد لها، مبرِّرًا قرارَه بقوله: "لن نسمح باستمرار قوَّة دولية تعمل ضدَّنا".
وإذا تذكَّرنا أنَّ مهمَّة الوجود الدولي المؤقَّت في الخليل كانت تتمثَّل في مراقبة الحوادث التي يرتكبها الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي وتدوينها، فإن دولة الاحتلال اكتسحت القانون الدولي، في الحرب العدوانية الراهنة على قطاع غزّة، تحت بصر العالم وسمْعه.
وسببٌ آخر يدفع السلطة الفلسطينية إلى منْع نشوء بيئةٍ مقاومةٍ في الضفة الغربية، برغم التداعيات والدواعي الخطيرة، يتمثَّل في ارتهانها للتنسيق الأمني، الذي تُمليه التزاماتها، ليس تُجاه دولة الاحتلال فقط، ولكن إلى الولايات المتحدة، أيضًا، وهي الراعي السياسي والأمني للسلطة وأجهزتها الأمنية.
في المقابل، ظهرت حركة حماس طليقةً من ذلك كله، متجاوبةً مع المخاطر المصيرية التي تَحِيقُ بالقضية الفلسطينية، وبالوجود الفلسطيني برُمَّته، مع تكشير قوى التطرَّف الديني الحاكمة في دولة الاحتلال عن أنيابها، وهي تتحضّرُ لضمّ الضفة الغربية إلى دولة الاحتلال، وهي تحثُّ الخطى نحو تهويد المسجد الأقصى، وهي تجتاح الوجود الفلسطيني بأكبر توسُّع استيطاني، على حسابه.
نشأ جيلٌ من الشباب الفلسطيني أكثر قُربًا من المنطلقات الإسلامية، في الصراع، واستدعاء معاني الاستشهاد، ومآلاته
زِدْ على تلك الأسباب، أو بالتضافُر معها، نشأ جيلٌ من الشباب الفلسطيني أكثر قُربًا من المنطلقات الإسلامية، في الصراع، واستدعاء معاني الاستشهاد، ومآلاته، بمنطلقاتٍ عابرةٍ للتنظيمات والفصائل، كما جسَّدها، على نحوٍ جليٍّ، مخيَّم جنين، ثم غيره، وهذه التحوُّلات تخدم حركة حماس، وحركات المقاومة، أكثر مما تتّسق مع فكر السلطة الفلسطينية، ونهجها.
ومع ذلك، تكتسب السلطة الفلسطينية مكانةً لا يمكن تجاهلُها، بالمطلق، هي المكانة الدولية، بوصفها الجهة السياسية التنفيذية الشرعية، مع تعرُّض حتى هذه الميِّزة إلى المراجعة: هل لا تزال السلطة الفلسطينية قادرةً على الوفاء بأدوار يُخطَّط بإناطتها بها، ليُعاد تموضعها، في حال نجحت الجهود الرامية إلى تحجيم حركة حماس في قطاع غزّة؟ ظهر هذا التردُّد، بل حتى الرفض، إزاء صلاحية السلطة، لمثْل ذلك الدور من رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو، كما تُنوقِل عن مسؤولين أميركيين، تحدَّثوا عن تغييرات في السلطة، أو في قيادتها، فقد نقلت وكالة رويترز عن مسؤول أميركي قوله إنَّ تغيير القيادة داخل السلطة الفلسطينية أمرٌ ممكن لإحياء فعاليتها، مع بقاء دور فخري للرئيس محمود عبّاس.
وبعد، لا يشبه التمثيل السياسي في الضفة الغربية المحتلَّة نظيرَه في الدول العربية، حيث يمكن لنُظُمٍ سياسية وسُلْطوية حاكمة أن تَبقى جاثمةً على صدور الناس، برغم فشلها المُدَوِّي، والمستمر؛ ذلك أنَّ الضفة الغربية تعاني احتلالًا لئيمًا يعمل، كقوَّة فاعلة (في الأحداث، وفي الوعي الشعبي العام)، على خنْق الحياة الفلسطينية، فالمعيارُ النابض، في التأييد والالتفاف الشعبي هنا هو مواجهة هذا التحدّي، ومدى النجاح في الحدِّ منه، أو عَكْسِه.