الشِّعرُ لُغَةُ المُراهَقَة؟
هذي أفكارٌ عشوائية على هامش قراءة "البياض الباقي" لفادي العبدالله، وربما تمرينُ عودةٍ إلى أحضان الشعر. فعلى خلاف كُثُـرٍ غيري ممّن تملّكهم عفريتُ الكتابة، أنا لم أجرّب قط القصيدة. تجربتي مع الكتابة بدأت مباشرةً بغواية القصّ، نُصوصٌ نثرية تُروي، ثم رواية تقصّ. الشّعرُ تعرّفتُ إليه لا أدري كيف ومتى، جاءني مصحوبا بوعيٍ سياسيٍّ مُبكِر و"ثقيل"، لذا فقد كان لا بدّ أن يترافق مع شيء نديّ: بعض رطوبةٍ وغضارةٍ ورائحةٍ آسرة ومذاقٍ استثنائيٍّ وفوضى حواسّ، وهذا كلّه وفّره الشّعر. أمّا أجمله وأفضله بحسب معايير تلك الأيام، فهو ما كان يدمج الالتزام السياسيّ بالحب، الصرامة بالطراوة. إلى أن طلّقتُ السياسة ومعها الشّعر، قبل أن أعود إليه من باب المسرح ونصوص الأوذيسة والإلياذة والتراجيديا الإغريقية وشكسبير. المسرحُ أطلق جناحَيْ الشّعر وخلّصه من آفة الالتزام السياسي، فرحتُ أضعه تحت مخدّتي، ألتهمُه التهاما وأتذوّقه محلّيا وأجنبيا، قديما ومعاصرا، حتى التُّخمة.
اليوم، وأنا أقرأ "البياض الباقي" (دار الجديد)، أتذكّر تلك الأيام، وتراودني فكرة رعناء مفادها بأنّ الشّعر هو بامتياز قراءة المراهقة وأوّل الشباب، فيما بقية الأنواع الأدبية هي للعُمْر. كأنّنا، لكي نلجَ عالمَ الشّعر، نفقه أسرارَه، نكون جديرين به، وجب أن نكون أبكارا، طريـّي العُود، أنقياء القلوب، معدومي التجربة، حالمين ومثاليين وثوريين .. "لكل الأشياء سِرُّها، أما الشّعر فهو سِرُّ كل الأشياء"، كان يقول لوركا، والمراهقون وحدهم هم من تستهويهم الأسرارُ ويشغلُهم اكتشافُها، لأنّ العالمَ في نظرهم سرٌّ كبير لا بدّ من سبره. حين يكون الجسدُ متحوّلًا، هادِرًا كبركان، والعالمُ غامضًا ومعقّدًا، والمستقبلُ غائمًا، وحدها القصيدة تربت أكتافنا، تهدهد وجعَنا، تأخذ بيدنا لكي نتلمّس ونستكشف ونخطو إلى الأمام.
"كلمة كلمة/ يتساقطُ النّدى والهُدْب/ على نبتة الوحشة".
الكلمات التي تقول أكثر مما نعرف، الكلمات التي تعرّي من دون أن تكشف الحقيقة كليةً، هو ما يستهوينا مراهقين، قبل أن تنتشلنا قناعاتُنا كِبارًا من فخّ الحيرة والغموض والتساؤل. هنا، ربما أوصد الشّعر بوّابته في وجوهنا، نأى، انغلق واستعصى وبخُسَ، بعد أن بتنا نُعمِل فيه سكاكينَ عقولنا، مطالبين إياه بمعنىً، بمغزىً، بوظيفةٍ، بمنفعة. فها إنّ اجتماع الكلمات قد فقد غوايتًه، ها إنّا قد أغلقنا مسامَنا، تسلّحنا، قوينا على الشّعر وهشاشة عوالمه. هذا لا يعني أننا لن نتلذّذ بالشّعر حين يكون خالصًا، مشعًّا، راعشًا، بل يعني أنّ الشعر هذا يبعث فينا تلك المراهقة، رعشتَها الأولى، ضياءها، نقاوةَ اللّحظة، طزاجة الرؤية، النوتة الأولى في موسيقى تَشَكُّلِنا.
"مات الموتُ/ ماتت ضُروبُه/ وبقي القتلُ" .
وعيُ خطورة العالم، يُبعدنا عن الشعر. وحدها الروايةٌ بإمكانها أن تقول تلك الخطورة، أن تصف ذلك التعقيد، أن تحكي أوجه الحياة، ضروبها، أن تحيط بما لا يمكن إحاطته، صانعةً بداية ونهاية، صائغة حبكة وأحداثا. أجل، بإمكان الرواية أن تواجه الموت، أن تتجاوز الفناء، وأن تستوعب فعل القتل حتى. لكنّ الحياة، إذ تتحوّل حقلَ ألغام، رمالا متحرّكة، مياها جارفة وأعاصير، وحين تصير الأزماتُ هي القاعدة، لا بدّ من الالتجاء إلى ذلك الصندوق اللّغز حيث تتقافز كالجنادب، كلماتٌ حيّة تمدّ ألسنتَها هازئة، تشدّ شعورنا، تصرخ، ترقص، تعاند، معلنةً ابتداءَ اللُّغة من جديد. أجل، وحده الشعر يعيد ترتيب العالم وفوضاه، إنّه البياضُ الباقي، فسحةٌ لحريّة أخرى هي حرّية التأويل والفهم، حرّية تأليف القصيدة قراءةً بعد قراءة، كلمة إثر الأخرى. الشّعر هنا تكثيف، إيجاز، ما قلّ ودلّ، القول متخلّصا من أدرانه، من جراثيمه، من زينته، القول عاريــًا حتى العَظْم.
أجل، "الشِّعرُ أفضلُ ما فينا، الباقي تراب".