الشفافية والفساد وعالم التسريبات

16 ديسمبر 2021

(عبد الهادي الجزار)

+ الخط -

كانت التسريبات عن وقائع الفساد والفضائح السياسية تقتصر فيما مضى على أوراق ومستندات، وغالباً ما يذيعها طرفٌ في السلطة. وأحياناً، تكون التسريبات مقصودة، لجسّ النبض أو التمهيد لتشكيل موقفٍ ما لا يمكن طرحه بطريقة مباشرة. والتسريبات تعني في النهاية إظهار ما خفي في ثوبٍ يتّخذ غالباً الفضيحة والمفاجأة، وربما إحداث الصدمة، تشويه الآخرين والكشف عن موقف صراع، ليس بالضرورة بين قوى معارضة وسلطة، أحياناً بين مكوّنات السلطة نفسها أو بين شخوصها، حتى ولو كان يجمعهم تحالفٌ وتساندٌ طبقيٌّ ووحدة سياسية ضمن أطر النظام الحاكم، حكى مرّة أحد قادة أحزاب المعارضة المصرية قبل ثورة يناير، إنه كان يُفاجأ باتصالاتٍ من شخصياتٍ في السلطة حول وقائع فساد لوزراء ومسؤولين حكوميين، وكانت تصل إلى صحيفة الحزب مستنداتٌ تثبت صحة الاتصال ومضمونه، والذي يشكّل، في النهاية، صراعاً بين أفرادٍ على مواقع ومصالح ضمن منظومة الفساد. وأخيراً، راج في مصر تسجيلٌ نُسب إلى لواء سابق، إلا أن وزارة الداخلية أصدرت بياناً تكشف فيه حقيقة التسجيل ضمن عمليات نصب وانتحال للمناصب. وتفتح الواقعة الباب عن أخلاقيات الإعلام، والتعاطي مع مسألة التسريبات ثانياً، وثالثاً إشكالية الفساد وما تمثله من تحدٍّ حقيقي يواجه المجتمع، خصوصاً مع تكرار حوادث الفساد في مواقع الإدارة العليا في عدة وزارات، منها وزارة الصحة وما سبقها من اتهامات فسادٍ، حكم بموجبها على وزيرٍ للزراعة بعشر سنوات.

فيما يخص التسريبات، فقد راجت بعد ثورة يناير، وما اتصل بها من صراعاتٍ متنوعةٍ بين القوى السياسية، وبينها وبين السلطة، وكان غرضها الأساسي النّيل من الثورة ورموزها، وإحداث أزماتٍ بين نخبها، وشكّلت التسريبات حينها مستوىً من الصراع السياسي والاجتماعي، ليس ذا طابع فردي، وإن ارتكز على أفراد، وإنما تعبير عن تناقضٍ بين مشروعين، مشروع للتغيير حملته الثورة يبشّر بالحريات والعدالة ومواجهة الفساد، ومشروع مضادّ يقف خلفه رجال النظام القديم، ومن خلاله أرادوا إعادة الزمن إلى ما قبل يناير. استهدفت التسريبات أن يندم جمهور الثورة على ما جرى، وتصل قطاعات منها إلى نتيجة أنها خُدعت بالسير خلف مجموعةٍ من المشوّهين سياسياً، والمطعون في نزاهتهم وأهدافهم، ووطنيتهم وسلوكهم. ونال هذا النهج الفضائحي من معايير تتصل بالنشر وأداء وسائل الإعلام ودورها. وتجاوزت التسجيلات مسائل الصراع السياسي إلى نواحٍ شخصية، واستهدفت السمعة، واستخدم فيها نقد نمط الحياة واختلاف طرق العيش ونمط الثقافة في معترك السياسة، لا إمكانية لفرز ما هو صحيحٌ فيها وما هو مفبرك وما تم اجتزاؤه، لكن هدف الحملة كان واضحاً، ولعبت الثورة المضادة عبر وسائل إعلامها دوراً في تشويه من تريد، ليبراليين ويساريين وإسلاميين، واستخدم التنافس والصراع السياسي بين قوى الثورة لتعميق الانقسامات بينها. تزامن ذلك مع التقدّم التكنولوجي وسهولة رصد الاتصالات واستخدام برامج التجسّس، مع نقصٍ معرفيٍّ عند بعضهم فيما يخصّ وسائل تأمين الاتصال، الهاتف والإنترنت، وتوسعت حينها فرص نمو التسريبات ورواجها عبر الوسائط المتعدّدة، ومعها اتسعت نطاقات توظيفها، كل جهةٍ على حسب ما تريد، ليصبح الصراع السياسي مشخصناً وتافهاً، ويترك القضايا الجوهرية والأساسية ويغرق في متاهات التسريبات والفضائحية.

بتقييد الحريات وحصار الصحافة وتغييب الرأي العام، تفقد المجتمعات أحد أدوات الرقابة الشعبية، وتخلق بيئةً لإنتاج الفساد وحمايته أحياناً

وفي ما يتعلق بتحدّي الفساد، والذي ما زال قائماً ويتعمّق عبر نمط سياسي يفتقد لمؤسسات ديمقراطية، ومع غياب الشفافية، فإن احتمالات توسّعه قائمة، وما من نظام سلطوي مهما امتلك من نظم وأجهزة رقابية، إلا ويكون عرضة لتكرار وقائع الفساد. وبتقييد الحريات وحصار الصحافة وتغييب الرأي العام، تفقد المجتمعات أحد أدوات الرقابة الشعبية، وتخلق بيئةً لإنتاج الفساد وحمايته أحياناً، والنظام السلطوي، بمضامينه من مركزية الحكم، ومحاصرة المجال العام، وتقييد التعدّدية السياسية، ويؤدّي غياب آليات تعين متّخذي القرار عبر الهيئات التمثيلية. وفي ظل غياب رقابة برلمانية على الحكومة، يظل الانحراف الوظيفي والفساد في المؤسسات العمومية قائماً، وما زال النسق السياسي يعاني من إشكالية اختيار من يتولّون المناصب والمواقع القيادية وتعيينهم وترشيحهم. ويلحظ عربياً، في هذا السياق، أننا أمام نسقٍ سياسيٍّ قرابي، تبرز فيه علاقات التوريث، سواء عبر المؤسسة أو العائلة أو الجمع بينهما، في أحيان كثيرة، فى مصر يمكن ملاحظة الأصول العائلية وانتماءات بعض المسؤولين، والذين يمثلون رديف أسر انتمت سابقاً لمؤسسات نظامية، وهذا المشترك مؤشّر على الانتماء العائلي والمؤسسي، جزء من مسوّغات تعيينهم، وكأننا أمام ما يشبه قبيلةً تدير الحكومات وتتحكّم في مواقع السلطة. ويمكن ملاحظة التقاطعات بين شجرة العائلات وشجرة السلطة، وكذلك المشتركات الطبقية، غير محاولاتٍ لإنتاج دولة الضباط، والاعتماد عليها بوصفها شبكةً ذات ثقة، وقدرة على تسيير أجهزة الدولة، وتمثل، في الوقت نفسه، سنداً للنظام.

الشيء بالشيء يُذكر عن حالة وزيرة الصحة، هالة زايد، وغياب تفسير بشأن اختفائها بعد اتهامات بالفساد، اختلاس ورشاوى، لعدد من قيادات الوزارة. بينما أصدرت النيابة قراراً بمنع النشر حول القضية، وترك غياب الوزيرة لغزاً للتأويل في غياب الشفافية، وتم التكتّم على أمرها، من دون إقالة أو تبرئة ساحتها، وكأن غيابها شأنٌ عائلي، لا يخصّ وزيرةً فى دولةٍ مركزية قديمة. وتأتي قضية الفساد في وزارةٍ كانت المسؤولة فيها سابقا عن الرقابة والمتابعة والتقييم، ورئيس لجنة مكافحة الفساد بها، ومن حقها إجلاء الحقيقة وتبصير المجتمع، خصوصاً وأن حادثة القبض على قياداتٍ من وزارتها كانت محلّ اهتمام إعلامي، كما حالة سكرتير محافظ القاهرة المتهم بتلقي رشوة قدّرت ب 76 مليون جنيه. وسبقتها عدة حوادث مشابهة لسكرتير عام محافظة الجيزة وبنى سويف والسويس وغيرها من وقائع فساد، كان أبطالها ضمن مؤسساتٍ نظامية، وعلى أساس وظائفهم السابقة، وضعوا ضمن مهام إدارية عليا.

توفر آليات للشفافية والرقابة ونظم الإدارة ونفاذ القانون أدواتٍ للحد من الفساد، ومعها تتقلص ظاهرة التسريبات

ولحرية وسائل الإعلام مع تمتّعها بمعايير أخلاقية في النشر دور هام في الرقابة. وفي مصر، وقبيل ثورة يناير وبعدها، ومع انفتاح المجال العام، كانت تنشر تقارير وأخبار عن وقائع فساد، كما كانت لمنظمات المجتمع المدني مشاريع وكتابات ترصد وتحلّل وقائع الفساد، كميا ونوعيا. أما الآن، فقد انحسرت هذه المساحة، نتاج عمليات الضبط والتوجيه والسيطرة ، حتى ما تكشفه الرقابة الإدارية ويصل للمواطنين إعلاميا يأتي ضمن مشهد محكم، كما حالة القبض على وزير الزراعة السابق فور خروجه من اجتماع مجلس الوزراء، أو القبض على متهمين بالفساد من مقر وزارة الصحة أخيرا، وهى الواقعة التي شكلت صدمة للوزيرة، وأصيبت بأزمة صحية، نقلت بعدها إلى المستشفى.

ويمكن تأمل واقعة بسيطة وطريفة أيضا. في عام 2015، طلب أحد المواطنين من القيادة السياسية مراجعة السيرة الذاتية للوزراء، لأن أحدهم يدّعي كذبا تخصّصه في أحد مجالات عمل الوزارة. وسرد عبر رسالته إنه على معرفة بهذا الوزير الذي يمارس المجاملات والكذب، وبذلك لا يؤتمن، حدث إن ترك المواطن اسمه وهاتفه للجريدة التي نشرت الخبر، لكي يعاود مجلس الوزراء الاتصال به، للتأكد من صحة ما ادّعاه. مثل هذه الرسالة من قارئ ومواطن لن تُنشر في الصحف هذه الأيام، لأن وسائل الإعلام عموما تم ضبطها، وإغراقها في التفاهة وتقلّص من تبقى من جمهورها، في ظل توسّع نوافذ الإعلام الإلكتروني، غير أنه في الغالب، المواطن لن يجرؤ فينشر اسمه وهاتفه ويتهم وزيرا بالفساد هذه الأيام.

وإذ ما كان الفساد الذي يعني مخالفة القواعد القانونية، وتحقيق مصلحة خاصة، جانب من الفساد مهم مقاومته، فإن فساد السياسات وتقنين الفساد والتصالح مع الفاسدين ضمن منظومة قانونية، أشد خطورةً، لأنه يعني أن هناك نمطا سياسيا يحمى الفاسدين بوصفهم حلفاء للسلطة، وهذا النمط من الفساد ليس ضمن آليات رقابة، وليس واردا في خطط واستراتيجيات وطنية للحدّ من الفساد يتم التغنّي بها. وحتى دوليا لا يشكّل أحد مؤشّرات قياس الفساد وإدراكه، لكنها في النهاية منتج للنسق السياسي، ومعه تنتشر مختلف أشكال الفساد. .. أخيرا، استحوذ أمين التنظيم السابق لحزب حسني مبارك (الحزب الوطني)، أحمد عز، على حصة من سوق الحديد، وكأنه يعيد بناء امبراطوريته بعد أن تصالح مع الدولة، ودفع الكفالة على أقساط!

مؤشّرات الفساد مرتفعة في مصر، على الرغم من وجود مؤسّسات وأجهزة رقابية، تكشف بشكل متواتر عن وقائع فساد

في النهاية، النسق السياسي السلطوي منتج للفساد، بما فيه من طرق إدارة وتنظيم غير انحيازات طبقية تنتج سياساتٍ فاسدةً، تمثل الكارثة الأساسية، وهو ما يُعرف بالفساد الكبير، أو سياسات النهب للمجتمع والموارد، والتي تنتج التمييزين، الطبقي والاجتماعي. ولا تعني خطورة فساد السياسات العامة التقليل من منتجات الفساد المتعلقة بكسر القوانين وتحقيق مصالح خاصة، والحصول على رشاوى أو أموال عامة، أو هدر الموارد، أو إساءة استخدام السلطة، لكن التفريق بين المستويين مهم، كما رؤية علاقة فساد السياسات بالنسق السياسي ضرورة، وهي المعضلة التي تجعل مؤشّرات الفساد مرتفعة في مصر، على الرغم من وجود مؤسّسات وأجهزة رقابية، تكشف بشكل متواتر عن وقائع فساد، أغلبها يقع في قمة هرم مواقع اتخاذ القرار.

وإجمالاً، توفر آليات للشفافية والرقابة ونظم الإدارة ونفاذ القانون أدواتٍ للحد من الفساد، ومعها تتقلص ظاهرة التسريبات، ويمكن تناولها بالنقاش لا التكتم والتجاهل. كما توفّر مناخا من الحرية والفرص لمناقشة السياسات العامة يحدّ من فساد انحيازاتها. وأخيرا، وعلى الرغم مما يحمله الجزء الظاهر من الفساد من سمات بعض شاغلي مواقع اتخاذ القرار وطباعهم، إلا أن المبالغات وتضخيم ظاهرة التسريبات، وتصويرها بوصفها صراع أجنحة فى السلطة فيه قدر من المبالغة، وينتهي بتقديراتٍ غير موضوعية، ويتجاهل حقائق، منها أن التحالفات الطبقية داخل النظم بين أفرادها تنافس، لكنه لا يشكّل شرخاً فى التحالف الحاكم إلا فى حالات استثنائية.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".